ترويض الطبيعة.. كيف نستمطر السحب؟

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١٥/مايو/٢٠١٧ ٠٤:٤١ ص

إعداد:
فريق إدارة المحتوى

لم يعــد «الاستمطـــار» تدخلاً طارئاً، فقط انشـــر «بذار الماء» في السُّحب، لتهطل الأمطار فوق المناطق الصحراوية، فتسري في شرايين الأرض وتحييها، ولو إلى حين. ولمّا كان الأمن المائي يشكل أحد القضايا الحيوية في الشرق الأوسط،

في صيف 2008، شكلت نشرة الطقس الجوية باحتمال سقوط الأمطار تهديداً كبيراً لحفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية التي استضافتها العاصمة الصينية بكين في أغسطس من ذلك العام؛ فالأجواء الصيفية المعتدلة في تلك الفترة كانت مهددة بأمطار وشيكة، وهو ما يعني أن الحفل المرتقب الذي تم التخطيط له طويلاً وتكلف التحضير له ملايين الدولارات كان تحت رحمة السماء.

يومها، وقبل انطلاق الحفل الافتتاحي بأربع ساعات، شنّ منظمو الأولمبياد حرباً ضروساً على عناصر الطبيعة، وكان العدو المستهدف «احتمال سقوط أمطار غزيرة»؛ أما سلاحهم فكان وابلاً قوامه 1,100 صاروخ تحمل مادة يوديد الفضة. وأثمر هذا الهجوم الصاروخي على الطبيعة عن نصر ساحق لـ«مكتب بكين لتعديل أحوال الطقس»، ليتابع العالم حفل افتتاح أولمبياد بكين 2008 الذي لم يعكره سقوط أي أمطار.

الاستمطار حول العالم

بينما يشكل ما حدث في بكين أحد أشهر مشاريع الاستمطار وأكثرها إثارة للاهتمام، إلا أن هذا العلم يعود تاريخه إلى أكثر من سبعة عقود. ففي العام 1946، اكتشف الدكتور بيرنارد فونغيت طريقة «يستمطر» بها السحب باستخدام مادة يوديد الفضة وذلك بنشر ذرات وجزيئات تكثيف تتسبب في هطول الأمطار. إلا أنّ هذه الطريقة لم يتم تطبيقها على نطاق واسع لأول مرة إلا بعد عشرين عاماً تقريباً على يد الجيش الأمريكي في فيتنام.
تواصلت العملية، التي أطلق عليها «عملية بوب آي»، على فترات زمنية منتظمة بين 1967 و1972، الأمر الذي أطال موسم هطول الأمطار على منطقة «هو تشي مينه تريل»، بغرض «العمل على قصف المنطقة بالطين لا شن الحرب»، بحسب تصريحات سرب استطلاع حالة الطقس الرابع والخمسين. وفي الوقت الذي كان يحاول فيه الجيش الأمريكي استخدام الطقس كسلاح لإعاقة مقاتلي الفيت كونغ (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام) من خلال استمطار السحب لتكون الوحل والمستنقعات أثناء تلك الحرب المثيرة للجدل، برزت بشدة إمكانية نجاح عملية الاستمطار.
وقبل التجربة الأمريكية، نجحت مؤسسة فرنسية غير ربحية في اقتحام هذه المجال في أواخر خمسينات القرن الفائت وذلك بتقليل الضرر الذي كانت تتعرض له المحاصيل الزراعية عن طريق الحد من سقوط البَرَد. وبعد ذلك بعقود، لجأ طيارو الجيش السوفياتي إلى استمطار السحب بعد كارثة مفاعل تشرنوبيل، التي وقعت في العام 1986، لمنع الجسيمات المشعة العالقة بالسحب من الوصول إلى موسكو، وإن كان الروس قد نالوا حصتهم من الضرر.
بيد أن عملية الاستمطار لم تسر بصورة سهلة تماماً – فأثناء انعقاد قمة مجموعة الثماني في روسيا العام 2006، تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بفخر عن قيام الطائرات باستمطار السحب لضمان صفاء السماء وصولاً إلى فنلندا. إلاّ أنّ الأمر لم يخلُ من سقوط أمطار، على أي حال، أثناء انعقاد القمة. وبعد ذلك، وتحديداً في العام 2008، شارك الطيران الروسي في تدريب خاص على استمطار السماء؛ ولكنّ، ولسبب ما، أُسقطت عبوة من الإسمنت على سقف أحد البيوت في العاصمة موسكو.
ويعتبر «مكتب بكين لتعديل حالة الطقس» المسؤول عن تغيير حالة الطقس أثناء دورة الألعاب الأولمبية الصيفية 2008، المكتب الأكبر من نوعه في العالم، إذ تُعزى له المسؤولية في إسقاط ما يقرب من تريليون متر مكعب من مياه الأمطار سنوياً خلال فترة الأولمبياد. وقد أصبحت هذه المؤسسة رائدة في مجال التحكم في الطقس بما في ذلك الاستمطار في أيام الصيف الحارة، للحد من الإسراف في استخدام الكهرباء لأغراض التكييف والتبريد، حيث تتسبب في سقوط الثلج واستخدام المطر في حجب العواصف الترابية.

تطور ولكن..

قد يكون من المقبول افتراض أن عملية تغيير حالة الطقس والتحكم فيها قد غدت متقنة بعد مرور ما يربو على سبعة عقود. فالتطور أمرٌ واقع. ولو قمنا بإجراء مقارنة بسيطة بين استمطار السحب وعلم الطيران، فسنستخلص حقائق عدة. بدايةً، تمكّن الأخوان رايت من التحليق في أول رحلة طيران ناجحة في العام 1903. وبعد مرور 42 عاماً، صارت الطائرات المقاتلة قادرة على تسوية مدن كاملة بالأرض في خضم الحرب العالمية الثانية. ثمّ، في عام 1969، نجح الإنسان في تجاوز الغلاف الجوي لتطأ قدمه سطح القمر.
في تلك الفترة، ظهر أول نموذج مبدئي من الإنترنت من خلال شبكة وكالة مشاريع البحوث المتقدمة «أربانت» ARPANET. وفي العام 1994، تم استخدام «نتسكيب نافيجاتور»، وهو أول متصفح تجاري على شبكة الإنترنت؛ واليوم، أصبح الإنترنت العمود الفقري للأعمال والترفيه حول العالم.
وعندما يتعلق الأمر بالعلم والابتكار، فإننا نتوقع أن يقطع التطور خطى متسارعة من دون توقف، إلا أن مجال استمطار السحب بالنسبة للعديد من العلماء والمتخصصين لم ينل الحظ الوافر من الاهتمام، شأنه في ذلك شأن علوم أخرى مثل علم المنعكسات والطب البديل. بَيدَ أنه حتى وإن كان الحُكم والتقدير يعتمدان على القياس الدقيق للعائد الاستثماري من وراء تخصيب السحب بالمواد الكيميائية أو حتى إذا كانت هذه العملية مرهونة في جزء منها بالحظ، فإن عملية الاستمطار تحظى بالاهتمام في بعض الأماكن.
وفيما يبدو، فإن استمطار السحب من أجل ري المناطق القاحلة يعدّ التطبيق الأنجح لهذا المجال، إذ اعتمدته الهند خلال فترات الجفاف التي تعرضت لها البلاد في الأعوام من 1983 و1994. وقد واصلت الهند بعد ذلك عمليات الاستمطار بالتعاون مع شركة «ويذر موديفكيش» (تعديل الطقس)، ومقرها الولايات المتحدة، كمزوّد «حلول جوية».

الاستمطار في الإمارات

في دولة الإمارات العربية المتحدة، يعمل المركز الوطني للأرصاد الجوية والزلازل على تغيير حالة السحب وحثها على الاستمطار طوال عقد من الزمان. إلا أنه يتعين على الطيارين الذين يعملون وفق بيانات الأقمار الصناعية استهداف نوعيات معينة من تجمعات السحب التي يمكن أن تكون محمّلة بالأمطار الغزيرة.
وكان تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» في العام 2014 قد أفاد بأنّ الحكومة الإماراتية سيّرت 200 رحلة استمطار خلال عام واحد بتكاليف تصل إلى مئات الآلاف من الدولارات. كل رحلة، تستغرق مدتها نحو أربع ساعات، يمكن استمطار ما يقرب من 24 سحابة بتكلفة تصل إلى خمسة آلاف دولار تقريباً. وأشار التقرير ذاته إلى أن الحكومة تعتقد بأن أنشطة الاستمطار رفعت من نسب سقوط الأمطار بنحو 30%، بعد نجاح العمليات في إسقاط 270 مليون جالون من المياه تقدر قيمتها بـ 300 ألف دولار.
ولعل ما يعوق الإمارات عن إدارة الاستمطار والسيطرة عليها في ضوء احتياجاتها هو ذات السبب الذي يمنع الولايات المتحدة من تخصيص الأموال اللازمة لحل الأزمة المتصاعدة للمياه في كاليفورنيا، ألا وهو اختيار الظروف المواتية، بما في ذلك وجود سحب مُثقلة بكميات كبيرة من المطر. أضف إلى ذلك أن طبيعة الأرض في دولة الإمارات تجعل من الصعب الاحتفاظ بكميات المياه التي تجود بها تلك السحب. وهذا الأمر يطرح علامات استفهام حول الأثر الفعلي للأمطار الصناعية في مساعدة الزراعة المحلية وزيادة منسوب المياه في السدود.
وبينما يرى كثيرون أن ثمة دليلاً واضحاً على نجاح الاستمطار وجدواه، فإن الإنفاق عليه بسخاء لن يتم إلا إذ أثبتت البحوث التجريبية جدواه الاستثمارية؛ لهذا قامت دولة الإمارات بإطلاق «برنامج الإمارات لبحوث علوم الاستمطار»، كمبادرة بحثية، حيث تم تصميم البرنامج بهدف تشجيع وتعزيز التقدم العلمي والتقني في مجال الاستمطار، وهو يقدم منحة إجمالية تبلغ قيمتها 5 ملايين دولار تقدم على مدى 3 سنوات للبحوث الأكثر تميزا وتمكينا في مجال الاستمطار من حول العالم.
وفي ظل عدم ثبوت أي أثار سلبية معروفة قد تتعرض لها البيئة من جراء عملية الاستمطار، فمن المؤكد أن تصل الأبحاث لغايتها المنشودة. كما أنه في ضوء الزيادة السكانية على مستوى العالم ووجود حالة من الغموض بشأن كفاية الموارد المائية، بات الاستمطار ضرورة ملحة، ليس فقط لشعوب الشرق الأوسط، بل لشعوب العالم بأسره.