صناعة أم تطوير عقاري؟

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١٥/فبراير/٢٠١٦ ٢٣:٤٥ م
صناعة أم تطوير عقاري؟

أ.د. حسني نصر

احتفلت السلطنة الثلاثاء الفائت بيوم الصناعة العمانية الذي يوافق التاسع من فبراير تخليدا للزيارة السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- لمنطقة الرسيل الصناعية في مثل هذا اليوم من العام 1991. يبدو الأمر هذا العام مختلفا في ظل تزايد الإدراك العام بأهمية تنويع مصادر الدخل القومي، عبر التركيز على القطاعات المنتجة وعلى رأسها القطاع الصناعي الناهض في السلطنة، نتيجة أزمة انخفاض أسعار النفط العالمية وما صاحبها من تداعيات على الموازنة العامة للدولة. وعلى هذا الأساس يمكن توقع أن يكون المزاج الشعبي العام مهيئا أكثر من أي وقت مضى لإحداث قفزة كمية ونوعية في المشهد الصناعي في عُمان، ترسخ مكانة هذا القطاع في منظومة الاقتصاد الوطني، وتحوله إلى مصدر رئيس من مصادر الدخل القومي، خاصة وأن الدولة وفرت له تقريبا كل سبل النمو والازدهار على مدى السنوات الفائتة.

في هذا اليوم كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء المهتمين بالصناعة في السلطنة حول ضرورة التفكير في تحويل المناطق الصناعية التي تنتشر اليوم في مختلف محافظات السلطنة، والتي تؤكد التوجه الاستراتيجي للدولة نحو تحقيق نهضة صناعية شاملة، إلى مدن صناعية كاملة تتشكل حولها تجمعات بشرية كبيرة تعمل جميعها في مصانعها وتستوطنها بصفة دائمة وتتمتع فيها بحياة جديدة بعيدة عن زحام المدن الكبرى. ضحك صديقي قائلا: من المؤكد أنك قرأت الخبر الخاص بالإعلان عن تأسيس أول مدينة للصناعات الخفيفة في السلطنة في منطقة حلبان بمسقط. لم أصدق أن ما كنت أفكر فيه تحول في نفس اللحظة إلى حقيقة. تركت صديقي ورحت أبحث في الأخبار عن التفاصيل، وكانت المفاجأة أن العنوان كان مضللا، وأنه ليس هناك مدينة للصناعات الخفيفة وإنما مشروع تطوير عقاري! وبقدر سعادتي بالخبر بقدر ما أصابني الإحباط عندما اكتشفت أن المشروع الجديد، الذي عقد أصحابه مؤتمرا صحفيا كبيرا للإعلان عنه ونقلت تفاصيله وكالة الأنباء العمانية ونقلت عنها كل الصحف تقريبا تحت عنوان رئيس «تأسيس أول مدينة متكاملة للصناعات الخفيفة»، ليس سوى مشروع تطوير عقاري يقوم على فكرة تجميع معارض وورش السيارات ومعارض مواد البناء في مكان واحد، ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالصناعة بجميع أنواعها سواء الخفيفة أو الثقيلة.
العناوين التي استخدمها أصحاب المشروع، مع تقديري لهم ولمشروعهم، بالحديث عن مدينة للصناعات الخفيفة، كشفت حقيقتها التفاصيل التي تسابقت الصحف على نشرها في الأيام التالية عن المشروع. من هذه التفاصيل أنه لا علاقة للوزارة المسؤولة عن الصناعة، وهي وزارة التجارة والصناعة، أو المؤسسة المعنية بالمناطق الصناعية في السلطنة بالمشروع، وأن الوزارة المعنية والمؤسسة ربما لا تعلم عنه شيئا، وسمعت به كما سمعنا نحن من وسائل الإعلام. وعلى هذا الأساس ما كان ينبغي أن تحشر كلمة صناعة أو صناعات خفيفة في الحديث عن مشروع لم يمر على الجهات المسؤولة عن الصناعة في الدولة. من الحقائق أيضا أن المشروع، كما جاء في تفاصيل المؤتمر الصحفي، يخضع لإشراف وزارة الإسكان التي ليس من اختصاصاتها الصناعة والمدن الصناعية. فقد حصل المشروع على اعتماد وزارة الإسكان كمشروع تطوير عقاري معتمد، وهو ما حدا بالرئيس التنفيذي للشركة المنفذة للمشروع، وهي شركة تطوير عقاري، إلى توجيه الشكر إلى المديرية العامة للتطوير العقاري بوزارة الإسكان، وهي المديرية التي أكد مديرها العام المساعد، في نفس المؤتمر الصحفي، أن مدينة الصناعات الخفيفة هي مشروع تطوير عقاري رائد ومتميز، يهدف إلى إيجاد بيئة عقارية تنافسية تعود بالنفع على الجميع، وأنه كغيره من مشاريع التطوير العقاري يخضع للإشراف المباشر من قبل الوزارة لمتابعة سير تنفيذه ودعمه من جهة، ومتابعة مدى التزامه بالمعايير والأنظمة التي تحكم مشاريع التطوير العقاري.
نحن إذن أمام مشروع تطوير عقاري ولسنا أمام مشروع صناعي، وهذا ما يجب إيضاحه للناس حتى لا يختلط الأمر عليهم. لا اعتراض لنا على إقامة مثل هذه المشروعات المهمة على الإطلاق، فهي في النهاية مشروعات استثمارية تصب في صالح الاقتصاد الوطني وتنعشه وتوفر فرص عمل جديدة للشباب، ولكننا فقط نطالب بالدقة وعدم استخدام عبارات وأوصاف رنانة في غير محلها. لا أعرف من المسؤول عن هذا التضليل؟ هل هي الشركة التي استخدمت هذا الوصف غير الدقيق لمشروع تطوير عقاري لأغراض الدعاية والتسويق وإضفاء طابع وطني استراتيجي عليه؟ أم الصحف ووسائل الإعلام التي تابعت المؤتمر الصحفي ونقلت تفاصيله دون أن تسأل أصحابه من رجال الأعمال والعقاريين عن نوعية الصناعات الخفيفة التي سيركز عليها المشروع، وهل تدخل معارض السيارات وورش الإصلاح ومعارض مواد البناء والمكاتب والمطاعم والشقق السكنية ضمن قطاع الصناعات الخفيفة أم ضمن المشاريع العقارية؟
كان من الممكن أن يكون الأمر مختلفا لو تضمن المشروع الذي يقام على مساحة ربع مليون متر مربع ويتكلف مئة مليون ريال، مصانع لإنتاج قطع غيار السيارات بدلا من استيرادها،ومصانع لإنتاج مواد البناء والسيراميك وليس معارض فقط لبيع هذه القطع والمواد فقط، وورش إنتاجية وليس ورش تقليدية لإصلاح السيارات لن تختلف كثيرا عن مثيلاتها في صناعية المعبيلة أو الوادي الكبير. هذا الخلط في المفاهيم بين أنشطة الصناعة وأنشطة التطوير العقاري يجعلنا نقول «رب ضارة نافعة»، فقد يمثل هذا دافعا للمؤسسة العامة للمناطق الصناعية للتفكير في إقامة مدن حقيقية للصناعات الخفيفة لتوفير ملايين الريالات التي تنفق على استيراد منتجات يمكننا تصنيعها بتكلفة أقل وجودة أعلى، كما يجعلنا نعيد التأكيد على ضرورة التفكير جديا في إحداث نقلة نوعية في المناطق الصناعية في السلطنة تحولها من مجرد مناطق إلى مدن صناعية متكاملة.

أكاديمي بجامعة السلطان قابوس