ديمقراطية الذكاء الاصطناعي

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١٠/مايو/٢٠١٧ ٠٤:٠٣ ص
ديمقراطية الذكاء الاصطناعي

ماسيج كوزيمسكي

من الواضح أن الذكاء الاصطناعي يمثل الحدود التالية للتكنولوجيا، وهو قادر على إقامة النظام العالمي أو كسره. فقد تساعد ثورة الذكاء الاصطناعي في انتشال «مليار القاع» من براثن الفقر وتحويل عمل المؤسسات المختلة تماما، وربما تعمل نفس الثورة على ترسيخ الظلم وتوسيع فجوة التفاوت بين الناس. وتتوقف النتيجة على الكيفية التي ندير بها التغيرات المقبلة.

من المؤسف أن سجل البشرية هزيل للغاية عندما يتعلق الأمر بإدارة الثورات التكنولوجية. ولنتأمل هنا الإنترنت، الشبكة التي خلفت تأثيرا هائلا على المجتمعات في مختلف أنحاء العالَم، والتي تعمل على تغيير كيف نتواصل، وكيف نعمل، وكيف نشغل أنفسنا. كما عطلت شبكة الإنترنت بعض القطاعات الاقتصادية، وفرضت التغيير على نماذج الأعمال الراسخة منذ فترة طويلة، وأوجدت عددا من الصناعات الجديدة تماما.

ولكن شبكة الإنترنت لم تجلب ذلك النوع من التحول الشامل الذي توقعه كثيرون. ومن المؤكد أنها لم تحل المشاكل الكبرى، مثل استئصال الفقر أو تمكين الناس من الوصول إلى المريخ. وكما لاحظ ذات يوم بيتر ثيل المؤسس المشارك لشركة «باي بال»: «كنا نريد سيارات طائرة، ولكن بدلا من ذلك حصلنا على خانة لا يجوز لنا أن نكتب فيها أكثر من 140 حرفا».
الواقع أن شبكة الإنترنت أدت في بعض النواحي إلى تفاقم مشاكلنا. ففي حين أتاحت الفرص للناس العاديين، عملت على إيجاد فرص أعظم لأولئك الأكثر ثراءً وقوة. وتكشف دراسة حديثة أجراها باحثون في كلية لندن للاقتصاد أن شبكة الإنترنت أدت إلى اتساع فجوة التفاوت، إذ يستخلص المتعلمون وأصحاب الدخول المرتفعة القدر الأعظم من الفوائد عبر الشبكة وإذ تتمكن الشركات المتعددة الجنسيات من النمو بشكل هائل في حين تتهرب من المساءلة.
ولكن رغم ذلك، ربما تجلب ثورة الذكاء الاصطناعي التغيير الذي نحتاج إليه. وبالفعل يعمل الذكاء الاصطناعي -الذي يركز على النهوض بالوظائف الإدراكية المعرفية للآلات حتى يصبح بوسعها أن «تتعلم» من تلقاء ذاتها- على إعادة تشكيل حياتنا. فقد قدم لنا القيادة الذاتية للمركبات (وإن لم يكن الطائرات حتى الآن)، فضلا عن المساعدين الشخصيين بل وحتى الأسلحة المستقلة.
ولكن هذا لا يخدش إلا بالكاد سطح إمكانات الذكاء الاصطناعي، والذي من المرجح أن ينتج تحولات مجتمعية واقتصادية وسياسية لا يمكننا أن نتوصل بعد إلى فهم كامل لها. ولن يصبح الذكاء الاصطناعي صناعة جديدة، بل سوف يتغلغل في كل صناعة في الوجود ويحولها بشكل دائم. ولن يغير الذكاء الاصطناعي الحياة البشرية، بل سيغير حدود الإنسانية ومعناها.
ولكن كيف ومتى قد يحدث هذا التحول وكيف يمكن إدارة آثاره البعيدة المدى؟ كلها أسئلة تقض مضاجع الباحثين وصناع السياسات. وتتراوح التوقعات لعصر الذكاء الاصطناعي من رؤى الفردوس، إذ يتمكن البشر من حل كل مشاكل الإنسانية، إلى المدينة الفاسدة (دستوبيا)، إذ يتحول وجودنا إلى تهديد وجودي.

الواقع أن التنبؤ بالاختراقات العلمية أمر بالغ الصعوبة. ففي الحادي عشر من سبتمبر 1933، قال عالِم الفيزياء النووية الشهير لورد روذرفورد أمام جمع غفير: «كل من يبحث عن مصدر للطاقة في تحول الذرات يهذي بلغو فارغ». وفي الصباح التالي، أنشأ ليو زيلارد فرضية التفاعل النووي المتسلسل المستحث بالنيوترون، وبعد ذلك بفترة وجيزة حصل على براءة اختراع المفاعل النووي.

تتلخص مشكلة بعض المراقبين في افتراض مفاده أن الاختراقات التكنولوجية الجديدة لا تضاهي تلك التي شهدها الماضي. وربما يتفق العديد من الباحثين والخبراء والممارسين مع إيريك شميت الرئيس التنفيذي لشركة ألفابيت على أن الظواهر التكنولوجية لا تخلو من خصائص ذاتية المنشأ، والتي «لا يفهمها البشر» ولا ينبغي لهم أن «يتحدوها».
وربما يرتكب آخرون الخطأ المعاكس، فيعلقون آمالا كبيرة على أوجه تشابه تاريخية. فيتوقع الكاتب والباحث التكنولوجي إفجيني موروزوف، بين آخرين، درجة معينة من الاعتماد على المسار، في حين تعمل المناظرات الحالية على تشكيل تفكيرنا في مستقبل التكنولوجيا، وبالتالي التأثير على تطور التكنولوجيا. ومن الممكن أن تؤثر تكنولوجيات المستقبل لاحقا على سردنا، فتعمل بذلك على إيجاد حلقة ذاتية التعزيز.
عندما نفكر في اختراق تكنولوجي مثل الذكاء الاصطناعي، ينبغي لنا أن نعمل على إيجاد التوازن بين التوجهات المختلفة في تناول الأمر. ويتعين علينا أن نتبنى منظورا متعدد التخصصات يقوم على مفردات متفق عليها وإطار مفاهيمي مشترك. ونحن في احتياج أيضا إلى سياسات تعالج أوجه الترابط بين التكنولوجيا والحوكمة والأخلاقيات. وتشكل مبادرات حديثة، مثل شراكة الذكاء الاصطناعي أو صندوق أخلاقيات وحوكمة الذكاء الاصطناعي خطوة في الاتجاه الصحيح، ولكنها تفتقر إلى المشاركة الحكومية اللازمة.
هذه خطوات ضرورية للرد على بعض التساؤلات الجوهرية: ما الذي يجعل البشر بشرا؟ أهو السعي إلى تحقيق الكفاءة المفرطة، عقلية «وادي السليكون»؟ أو هو الافتقار إلى التفكير العقلاني، والنقص، والشك، السمات التي من غير الوارد أن يكتسبها أي كيان غير بيولوجي؟
من خلال الإجابة على هذه الأسئلة فقط يُصبِح بوسعنا أن نحدد القيم التي يتعين علينا أن نعمل على حمايتها والحفاظ عليها في عصر الذكاء الاصطناعي المقبل، في حين نعيد النظر في المفاهيم والمصطلحات الأساسية الواردة في عقودنا الاجتماعية، بما في ذلك المؤسسات الوطنية والدولية التي سمحت باتساع فجوة التفاوت وانتشار الشعور بانعدام الأمان. في سياق من التحولات بعيدة المدى التي جلبها ظهور الذكاء الاصطناعي، ربما نتمكن من إعادة صياغة الوضع الراهن، على النحو الذي يجعله يضمن قدرا أعظم من الأمان والعدل.
يرتبط أحد المفاتيح إلى إيجاد مستقبل أكثر مساواة وعدالة بالبيانات. إذ يعتمد تحقيق التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي على مدى توفر وتحليل مجموعات كبيرة من البيانات عن النشاط البشري، على الإنترنت أو غير ذلك، لتمييز أنماط السلوك التي يمكن استخدامها لتوجيه سلوك الآلة وإدراكها. وسوف يتطلب تمكين كل الناس في عصر الذكاء الاصطناعي أن يمتلك كل فرد -وليس الشركات الكبرى- البيانات التي ينشئها.
من خلال الاستعانة بالنهج الصحيح، نستطيع أن نضمن إسهام الذكاء الاصطناعي في تمكين الناس على نطاق غير مسبوق. ورغم أن الدلائل التاريخية الوفيرة تلقي بظلال من الشك على مثل هذه النتيجة، فربما يكون الشك هو المفتاح. وعلى حد تعبير عالِم الاجتماع الراحل زيجمونت بومان: «ربما يكون التساؤل حول الافتراضات الأساسية التي تحكم الطريقة التي نعيش بها حياتنا الخدمة الأكثر إلحاحا التي ندين بها لرفاقنا في الإنسانية وأنفسنا».

باحث في السياسة العامة في جامعة أكسفورد

وزميل مبادرة الألفية بالمجلس الأطلسي