الديمقراطية: مقدمات أم نتائج؟

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠٨/مايو/٢٠١٧ ٠٤:٤١ ص
الديمقراطية: 

مقدمات أم نتائج؟

مرتضى بن حسن بن علي

رغم وجود مطالبات عديدة في العالم العربي على ضرورة إحلال الديمقراطية كحل لمشاكلنا المتعددة فإن هناك أصواتا عديدة تعتقد بل تجزم أن شروط وجود الديمقراطية بمعناها الموجود في عدد كبير من الدول غير متوفرة في العالم العربي، إذ إن ذلك يحتاج الى إعادة هندسة ثقافة المجتمعات وتغيير الأسس التي تقوم عليها الآن تغييراً جذرياً. لحدوث ذلك يتوقف على توافر شروط جوهرية، أهمها قدرة قوى المجتمع على التغيير، أي وجود حامل قوي، ووجود قاعدة عريضة لهذه القوى، هذان شرطان لا وجود لهما في الساحة العربية. ولا يوجد شاهد أن ذلك قد يحدث قريباً.

الديمقراطية سلوك جماعي يحتاج إلى ركيزة واسعة من المواطنين الواعين لأمورهم، ويريدون العيش بحرية وعلنية من دون خوف وبشريطة التقيد بالقوانين السائدة ومحاولة تغييرها بالطرق السلمية ومن دون اللجوء إلى العنف والقبول بمبدأ حل الخلافات بشكل سلمي عن طريق الحوار العقلاني المنفتح، بعيداً عن العصبية رغم كل الخلافات الممكنة في عالمنا الإنساني.

الديمقراطية لا يمكن تحقيقها بمجرد رفع يافطة «الديمقراطية أولا»، وتلك الشعارات المصاحبة لها، أو بالدعوة إليها خطابياً وكلامياً، أو من خلال الدعوة إليها تماهياً مع ما حدث من تحولات ديمقراطية في العديد من دول العالم، أو في إطار التبدلات والتغيرات التي أصابت وتعرضت لها بعض المنظومات الأيدلوجية، أو انسجاماً مع دعوات بعض القوى الدولية، التي تبشر بالديمقراطية وتعظم من شأنها وفوائدها ومردوداتها.

لن يكون هناك جدوى وقيمة للديمقراطية عندما تكون مجرد شعارات ترفع بذريعة الإصلاح والتغيير، إذا لم يكن المجتمع المراد إصلاحه أو تغييره يملك الاستعداد والقابلية لاستقبال الوافد الجديد واستيعابه، ومن ثم القيام بإعادة إنتاجه وفق بيئته الحضارية الخاصة، وبما يتفق والمرحلة التاريخية التي يمر بها، وصولا إلى حالة التطور والتقدم التي يسعى للوصول إليها، والديمقراطية لن تكون برسم القطف بمجرد رفع شعارات وانتظار نتائج سريعة لإحداث التنمية المنشودة من دون شروط ومستلزمات ذاتية وموضوعية، التي لم تنضج بعد، بل لعلها لم تزرع بعد في العديد من البلدان العربية، وان تم بذرها أحيانا في بعض منها، ولهذا لن تكون مفتاحا سحريا لفتح جميع الأبواب الموصدة المفضية إلى جميع الطرق المغلقة من دون تهيئة الشروط العامة والخاصة، بما فيها البيئة الثقافية والاجتماعية وإحداث التراكم الطبيعي التدريجي التاريخي، وبما يتناسب ودرجة تطور المجتمع.
ومن أهم أسباب التحول الديمقراطي: النمو الاقتصادي ووجود نظام تعليمي متقدم والتحول الاجتماعي الشامل القادر على فك أسر المجتمع للولاءات القبلية والطائفية والمناطقية والإثنية والتحول الحضري وظهور الطبقة المتوسطة المتصاعدة وخفض التفاوت الاقتصادي وبناء اقتصاد وطني قوي متنوع المصادر وتعزيز مبدأ المواطنة والفهم الشامل لسمات الدولة العصرية وإدراك بضرورة إيجاد توازن بين الحقوق والواجبات، والمشاركة والتعددية في كافة أمور إدارة الشأن الوطني، وبناء اقتصاد وطني قوي متنوع المصادر وإيجاد قوى إنتاج حقيقية ونشر الأفكار التنويرية والتخلص من إرث الماضي الذي يثقل كواهل المجتمعات ويمنعها من الانطلاق.
ويعد العامل الاقتصادي من العوامل ذات الأهمية القصوى في أي تحول أو تغير سياسي، لكونه يوفر آفاقا رحبة لتفعيل عملية التحول أو إيجاد فرص لأحداثه إذ يؤدي ذلك العامل الى تغيير قيم السكان وزيادة قبولهم لفكرة قيم التسامح والاعتدال والعقلانية، وتساهم في التقليل من احتمالات صراع الطبقات ومن ثم تزيد من حجم الطبقة المتوسطة التي هي صمَام الأمان لإحداث توازن واعتدال في الصراع ويحصل نوع من الاتفاق الاجتماعي أو الوفاق الاجتماعي، وتتمكن الديمقراطية أن تحتكم إلى الدستور والمجالس المنتخبة والانتخابات التي هي ضرورية لترسيخ مبدأ الديمقراطية، ولكنها بحد ذاتها لن تكون كافية للتحول الديمقراطي من دون وجود ثقافة ديمقراطية في المجتمعات.
لماذا لم تنجح الديمقراطية في البدان العربية - من المحيط إلى الخليج؟ لأننا لم نصل إلى مرحلة المواطنة كما لم نصل إلى الوفاق الاجتماعي القائم على نمو طبقي حقيقي وتقدم اقتصادي وتعليمي وثقافي حقيقي، لكي نصل راضين مرتضين وموافقين ومتحمسين او على الأقل قابلين، بلا إحساس بالغبن، أن نحتكم الى دولة المؤسسات ونحتكم الى قانون ينظم العلاقات بيننا. لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية كشكل بلا مضمون اجتماعي. وسوف نصل الى ديمقراطية إذا كانت هناك في النهاية دساتير تعبر عن حقائق اجتماعية اقتصادية مرضية قابلة لإقامة التوازن عليها- وبعكس ذلك سوف نتأثر بصياغات مجتمعات لم نعش تجاربها. لنقرأ لمن نشاء من فلاسفة التنوير أمثال فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو وجون آدامز وغيرهم. كلها سوف تكون صياغات مفيدة كدليل للتقدم.
بدون شروط النمو الاقتصادي الاجتماعي التعليمي الثقافي فإن الديمقراطية سوف تكون لعبة - سوف تكون صياغات يتم اللعب بها- كما قد تؤدي إلى الانفراط والفوضى العارمة.
ولذلك في البداية لا بد أن نأخذ بمبدأ المشاركة حتى تصل مجتمعاتنا الى مراحل من التطور حتى تكون هناك ديمقراطية. لا يعني أن ننتظر. لنبدأ بالتقدم على مسارات مختلفة. لنبدأ بسن القوانين تطبق وأنظمة للحوكمة. ورقابة ومحاسبة وأفكار متدفقة وتعليم جيد وراقي ومتطور وتشريعات عصرية واقتصاد قوي متطور لكي يتغير الوعي الاجتماعي وينضج العقل السياسي، وتصبح طريقة التفكير المجتمعي تتطور مع المسارات الأخرى.
الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق بين يوم وليلة، وهي تحتاج إلى زمن وتراكم معرفي وممارسات عملية، تتحول مع الزمن إلى تجربة متراكمة تخص البيئة الاجتماعية التي تولد فيها، من خلال إنتاج وانتهاج الآليات والوسائل والنظم، وسيادة القانون، واستقلال القضاء، وحق الاختيار، والمساواة، والمساءلة، والشفافية، وإشاعة الحريات العامة والفردية، لأن الديمقراطية هي عملية تطور سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي ذات طابع تراكمي، ولا تأتي عبر استصدار قرار داخلي أو خارجي، من هذا الطرف أو ذاك، ولكن فقط عبر إرادة شعبية ورسمية وإصرار وصبر وعمل دؤوب، والذي يتطلب وقتا طويلا.
والديمقراطية لن تكون ذات قيمة مثمرة إلا حيث يكون لها جذور مترسخة في التربة الاجتماعية وذلك من خلال تبلور تكوينات وبنى اجتماعية متطورة اجتماعيا وحضاريا يؤهلها لتَمثُّل الديمقراطية واستيعابها. الديمقراطية لا بد، ويجب، وينبغي أن تكون لها جذورها الاجتماعية الملائمة لتقوم وتنمو وتتطور، وإلا فإنها سوف تكون نبتة في مهب الريح، ويمكن أن تطيح بها أي نسمة هواء، ولا يمكن أن تنقذها النوايا الطيبة، أو الضغوط الخارجية، فبالإمكان إصدار دستور يتضمن برلماناً منتخباً من دون تنفيذ، لا ديمقراطية بلا ديمقراطيين. ومن هذه الزاوية تبدو مسألة الإعداد الجماعي للديمقراطية طويلة الأمد تقتضي أجيالاً من التحول المجتمعي التقدمي. ولا توجد في التاريخ حلول سحرية،
الديمقراطية نتائج وليست مقدمات وهي نتاج تفاعلات اقتصادية واجتماعية وتعليمية وفكرية تصل المجتمعات معها إلى حالة من التوازن تجعل كل مواطن طرفاً مسؤولاً وليس مجرد طيعة، وحالة المواطنة لا تصل إليها الأمم إلا بعد صراعات طويلة ومخاضات قاسية يستحيل اختصارها أو اختزالها، وإن أمكن تسريعها، ويظل أمرها مرهوناً فيما أظن باتساع الآفاق الممكنة للصعود الاجتماعي.