زاهي وهبي
عيدٌ للحب، أيحتاج الحُبّ عيداً؟ ألا يُفترَض أن كلَّ يوم هو عيد للحُبّ، بل كل ساعة وكل لحظة،كل شهيق وزفير، كلما تعانق عاشقان، ذرفَ مشتاقٌ دمعة وَلَهٍ، كتبَ شاعر قصيدة، عزفَ موسيقيٌّ لحنَ اشتياقٍ وحنين، انتظرتْ امرأة على ناصية الحلم، طلعتْ شمس على حبيبين نسيا إسدال الستائر، نبتت وردة في أصص شرفة، وحنَّ نايٌّ الى أصله القصب.
بلى، في هذه الحياة كثير من الحُبّ. لولا الحُبّ لما كانت الحياة ممكنة أصلاً، يكفي حُبُّ الأمهات لأبنهائن لِيفيضَ الكون، لكن ما يطفو على السطح وما يلقى كثيراً من الحفاوة والاستقبال هو الكره. خذها من أبسط مثال، تقول كلمة طيبة في حق إنسان غائب، لن تجد مَن ينقلها اليه. تقول كلمة سيئة سوف تصله قبل أن تطبق فمك عليها. هذا واقع الحال: في أزمنة التخلف وعصور الانحطاط يحتفي الناس بالسلبيات أكثر من الايجابيات، تشتغل الألسن أكثر حين الأنباء غير سارة، أما السارّ من الأحداث فيغدو موضع غيرة وحسد ومشاعر غير إيجابية. إذاً ما العمل؟ هل نستسلم ونرضخ، ونقول حسناً، لقد شاء حظنا أن نولد ونعيش في عصر الضغائن والأحقاد على أنواعها؟ أم نبحث عن مكامن الأمل وبصيص الضوء ونبشّر بالحُبّ في عيده وفي غير عيده؟
قبل أن يتفجّر الينبوع العذب بفعل الصواعق والرعود تتجمع مياهه قطرة قطرة، تتلاقى فيه الروافد الجوفية ويمر وقت طويل حتى ينبجس الماء هدية من الطبيعة للإنسان. نُرَاكِمُ أسبابَ التفاؤل مثلما تتجمع مياه الينبوع، على أمل أن تتدفق يوماً شلالات فرح وأنهار نور. تبدو الفكرة طوباوية بعض الشيء، نوعاً من رومانسية الشعراء غير القابلة للوجود في الواقع؟ ربما، لكن أليس ثمة شعوب "سعيدة" (مفهوم السعادة مطاط ويحتمل الكثير من التأويل) على هذه الأرض، ومجتمعات حققت مقداراً من العدالة لا بأس به؟ بلى، ثمة مجتمعات تقدمت في هذا الاتجاه، ولا نظن أن إنسان تلك المجتمعات مختلف عن إنسان مجتمعاتنا الا بمقدار ما تَوَفَّرَ له من حُسْنِ تربية وتعليم ومصادر وعي ومعرفة، أو ما يمكن أن نسميه بلغة أهل الاختصاص التنمية البشرية والاجتماعية، فهل إنساننا قاصر عن تحقيق ما يصبو اليه؟ قطعاً لا، المشكلة أن الأليات غير متاحة حتى الآن، لكن لا بد للواقع أن يتغير. شرطُ تَغَيْرِ الواقع أن يتغير الناس لأن الله عزّ وجلّ لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. التغيير عملية تراكمية تحتاج كثيراً من الوقت، ولعل المخاض الدموي الموجع والمؤلم الذي تعيشه بلداننا يسفر عن ولادة واقع أفضل، لأنه يضع أمام الناس أسئلة صعبة وتحديات هائلة ويكشف لهم واقعهم البائس، لا تغيير بلا إرادة تغيير تترافق مع ظروف موضوعية مؤاتية. الظروف المؤاتية تصنعها التنمية والتربية والتعليم العصري والثقافة والمعرفة، بغير ذلك عبثاً نحاول.
يقول المثل الشعبي "القِلَّة تُوَلِّد النقار"، لو تسنى لمجتمعاتنا شيء من التنمية والرخاء لَخفتت حدّة الانقسامات والتشظيات. حين يتيسر للناس نوع من العدالة والمساواة والعيش الكريم في ظل تنمية مستدامة تتراجع احتمالات الفتن والشقاق، وترجح كَفَّة الحُبِّ على كَفَّة البغضاء، ولا يعود الناس منهمكين بعصبياتهم وانتماءاتهم الطائفية والمذهبية والقبلية والجهوية، يصبح انتماؤهم أقوى للوطن الذي يوفِّر لهم كلَّ ما ذكرناه.
أما عيد الحُبّ، فلا بأس به ان استلهمنا قيم الحُبّ والعاطفة، وهو بالمناسبة ليس فقط عيداً للعشق، بل للحُبّ بمعناه الإنساني الشامل نسبةً للقديس فالنتاين . المشكلة أن مفاهيم السوق سَلَّعت كل شيء، أي جعلته سلعة. يتجلى هذا التسليع في عيدي الميلاد ورأس السنة مثلما يتجلى في عيد الحُبّ وسواه، حتى عيد الأم بكل ما يختزنه من قيم نبيلة يجعله السوق عيد هدايا. مفهومنا للعيد أعمق وأبعد من مجرد هدية، مع تقديرنا للهدية وأثرها الطيب في النَّفْس، ولنا أسوةٌ حسنة بالرسول العربي الأكرم اذ قال: "تهادَوا تحابُّوا، إن الهدية تُذهِبُ وَحْرَ الصدر"(وَحر: حقد وغيظ).لسنا ضد الهدية، لكننا لا نقصر معنى العيد، أي عيد، على الهدية، بل على مضامينه الانسانية وأثره على السلوك والعلاقات بين الناس. ففي زمن الضغائن والأحقاد والتفتيت المجتمعي وفساد العلاقات الانسانية نحتاج تبشيراً بالحُبّ وإعلاءً لشأنه، ليس فقط على مستوى العلاقات الثنائية بين الأفراد، بل أيضاً وأولاً على مستوى الجماعات والمكونات التي تتشكَّل منها بلداننا ومجتمعاتنا.
كلُّ جغرافيا لا تتسع للعشّاق والحالمين ليست وطناً، الوطن مساحة لقاء وتلاقٍ بين مجموعات بشرية إختارت مساحة جغرافية بالولادة أو بالارادة لتعيش معاً تحت راية واحدة ونشيد واحد، فكيف لا تتسع تلك المساحة لعاشقين أو لحبيبين؟ وكيف تضيق بفتى مسرعٍ الى لقائه العاطفي الأول أو بوردة حمراء في واجهة محل لبيع الورود؟ الحُبّ فطرة إنسانية وغريزة بشرية لا يحول دونها منع ولا قمع ولا حواجز أو جدران، ولنا في قصص العشّاق براهين وأمثلة، كيف لم تفلح القبيلة والعشيرة ولا الأعراف أو القوانين في الحيلولة بينهم وبين قلوبهم حتى لو كلفهم الأمر أرواحهم أو ذهب بعقولهم.
في تاريخ العرب حكايات حُبٍّ خالدة وقصص عشق تواترت عبر السنين وقصائد رائعة مجدّت الوجد والهيام ومجانين هاموا وتاهوا عشقاً ورغبةً بالوصال، لذا كان الأجدى بِنَا أن نكون طليعةَ المبشِّرين بالحُبِّ ورافعي رايته والمنتصرين له وبه.
في الختام مقتطَفٌ من قصيدة لي عنوانها "أُحِبُّ الحُبَّ":
أُحِبُّ الحُبَّ
حتى لو سَفَكَ أشواقي على الملأ
وَسَّعَ القفارَ وضاعَفَ المجانين
كأنني قيسٌ يرتدي حلةً معاصرة
ليلاي ترقصُ على شفير الروح.
ثمة صداعٌ نصفيٌّ في القلب
وجعٌ مباغتٌ بين الكتفين
لا تداويه قُبلةٌ ولا لمسةٌ سرّية في نهارٍ وقح
يشفيه اتحادٌ مستحيلٌ
حلولُ روحين بدناً
أو روحٌ واحدةٌ في جسدين.