باميلا كسرواني
لندن ونيويورك وباريس، مدنٌ تعتبر الأكثر عالمية بحسب مؤشر»المدن العالمية 2016» الذي تُعده الشركة الاستشارية «أي تي كارني» حول 125 مدينة اعتماداً على معايير مختلفة. إلا أن مدنا أخرى قد تطيحها من عرشها في السنوات المقبلة بفضل تغيير سياساتها وتحويل اهتماماتها
فنشهد تزايد المدن العالمية بأبعاد مختلفة، من النشاط التجاري والرأسمال البشري إلى الحوكمة والبنى الأساسية المترابطة. فالمدن العالمية الرائدة لا تُعتبر مراكز مهمة للقوّة الاقتصادية والنفوذ الاجتماعي والثقافي فحسب لا بل إنّها مبتكرة لا تتردد في قلب النماذج التقليدية. وقد نجحت المدن المهيمنة في أن تكسب سمعة لها بغض النظر عن الدول التي تنتمي إليها وتميّزت جميعها بأنها منفتحة أكثر إلى العالم، حتى أن عالميتها تعتبر مؤشراً واضحاً للرفاه الاجتماعي والثروة الاقتصادية واستدامتها.
ولكن ماذا عن المدن العربية وتحديداً الخليجية منها؟ كشف آخر تقرير لشركة «أي تي كارني» بعنوان «المدن العالمية المستقبلية، نظرة على دول مجلس التعاون الخليجي» الذي تم إطلاقه خلال القمة العالمية للحكومات لهذا العام في دبي، أن العديد من مدن المجلس قد أطلقت خططاً طويلة الأمد لتصبح مدناً عالمية ناجحة في عددٍ من المجالات. ووجد التقرير أن هذه المدن قد حققت الكثير ولكن ما زال هناك الكثير للقيام به لاسيما أن المنطقة تمتلك أهدافا طموحة جداً.
أين تقف إذاً المدن الخليجية من العالمية؟ لا شك أن هذه المدن لا تُشبه بعضها البعض وكل منها يتمتع بمعدل نمو وتغييرات مختلفة على مدى العقود. إلا أن الأكيد هو أنه رغم النزاعات في الشرق الأوسط والتراجع الحاد في أسعار النفط، ما زالت هذه المدن تخطو بثبات في مسيرتها لتكون جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي، مسيرة تعتمد على التخطيط الطويل الأمد وعلى جهود القادة في الوفاء بالعهود التي قطعتها كل مدينة تجاه مواطنيها.
تقرير «أي تي كارني» الأخير سعى إلى أن يُحدد أي من المدن الخليجية الأكثر عالمية استناداً إلى خمسة أبعاد لمؤشر المدن العالمية ألا وهي: النشاط التجاري، والرأسمال البشري، وتبادل المعلومات، والتبادل الثقافي، والالتزام السياسي.
ووجد التقرير أن دبي تعد المدينة العالمية الرائدة في دول مجلس التعاون الخليجي، تليها أبو ظبي، فالدوحة والرياض وجدة والكويت العاصمة، ومسقط وأخيراً المنامة.
وعزا التقرير مرتبة دبي إلى أنها تعتبر مركزاً مهماً للخدمات المالية والتجارية والمعمارية وخدمات النقل في المنطقة. أما أبو ظبي، فاحتلت المرتبة الثانية لاسيما بفضل استضافتها لأكبر عدد من السفارات والمؤسسات والفعاليات الأجنبية من دون أن ننسى الشركات المحلية التي تتميز بتأثير عالمي. كما أن العاصمة الإماراتية تتميز بعدد كبير من وكالات الأخبار مما يحملها إلى مرتبة عالية في تبادل المعلومات.
في السعودية، اتّسمت العاصمة الرياض باستثمارات ضخمة في مجال التعليم الدولي خلال السنوات الأخيرة ما منحها معدلات عالية في نمو الرأسمال البشري مقارنة بالمدن الخليجية الأخرى. من جهتها، تنفرد جدة، ثاني أكبر المدن السعودية، بكونها مركز التبادل الثقافي في المنطقة لقربها من مكة المكرمة وتدفق الحجاج إضافة إلى أنها تحتضن مقرات العديد من المنظمات الدولية وقد أطلقت مشاريع مهمة في تحديث البنى الأساسية والنشاطات التجارية.
ووجد التقرير أن الدوحة رائدة في النشاط التجاري والتبادل الثقافي المدفوع بالعمل الدؤوب نحو نموذج جديد للمدينة واستثمارات متزايدة في المشاريع الثقافية. أما الكويت العاصمة، فتتميز بأنها تقدمية سياسياً لاسيما بفضل خطة التطوير على مدار خمس سنوات التي تركز على تعزيز الدور العالمي للكويت من خلال الحفاظ على تأثيرها السياسي والاقتصادي والدبلوماسي. ودعونا لا ننسى أن التحديثات في البنى الأساسية مثل المطار والمترو قد تزيد من فرصها في تحقيق أهدافها.
ولا شك أن مسقط ما زالت تتميز ثقافياً وتشكل مركزاً سياحياً مهماً في المنطقة كما بدأت تتحوّل مؤخراً إلى المركز المصرفي الإقليمي إضافة إلى مشاريع لتنمية البنى الأساسية وجذب المزيد من الأعمال.
وعاصمة البحرين التي احتلت المرتبة الأخيرة ما زالت تتميز بثقافة الأعمال التنافسية وبنى أساسية متينة للمعلومات والاتصالات إضافة إلى طبقة متوسطة متعلّمة. وأطلقت المنامة العديد من مشاريع التنمية، أكان في ما يتعلق بالتخطيط العمراني أو تطوير خدمات حكومية فعالة وذكية.
ما هي العوامل التي تعزز عالمية المدن الخليجية مستقبلياً؟ كما رأينا في النتائج التي توصل إليها التقرير، حتى لو أن كل مدن دول مجلس التعاون الخليجي تعمل وتصبو إلى العالمية إلا أنها مختلفة عن بعضها وتملك كل منها فرصة تحديد أي نوع من المدن العالمية تريد أن تكون.
وفيما تستنبط المدن الخليجية مسارات النمو الخاصة بها، يبقى السؤال: هل يجب أن تركز مواردها على تعزيز بعض من الأبعاد التي اعتمدها التقرير في تصنيفه كما فعلت بوسطن أو بروكسل أم يجدر بها أن توزّع الموارد عبر مختلف الأبعاد كما فعلت نيويورك، أو لندن أو باريس؟
لا توجد وصفة سحرية أو مسار موحّد لتحقيق العالمية، إلا أن التقرير حّدد 5 عوامل يجب التركيز عليها من أجل حجز مقعد بين المدن العالمية الرائدة.
يستلزم الأمر أولاً الاستثمار بالابتكار كمسرّع للنمو مما يوفّر العرض وإنما أيضاً عدم التردد في المراهنة من أجل دفع الطلب على الابتكار من خلال القوانين والتوريد. ثانياً، يجدر إحداث نماذج أعمال جديدة تعزز التجارة وتدفق الاستثمارات المباشرة الأجنبية التي تحمل معها أفكار وحوافز من مختلف أنحاء العالم من دون أن ننسى أهمية تقليص المخاطر لاسيما لرواد الأعمال والشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم بفضل توفير نفاذ أفضل للأعمال وفعالية أكبر بما فيها تعديل قوانين الإفلاس.
أما العامل الثالث فيعوّل على بناء شبكات الرأسمال البشري وتوسيع الخدمات الثقافية من أجل دمج أفضل المواهب في النسيج المجتمعي على المدى الطويل. ولا شك أن هذا الأمر سينعكس مباشرة على السكان ويحسّن قدرة المدينة على استبقاء المواهب العالمية.
ويحتّم العامل الرابع ألا يتردد القادة في تبنّي مختلف أشكال الحوكمة المستقبلية من أجل إدارة التغييرات بما فيها الاقتصاد التشاركي وزيادة الرقمنة والتشغيل الآلي والذكاء الاصطناعي، أي لا بد لهم من وضع قوانين مناسبة والاستفادة من القنوات التقليدية وغير التقليدية مثل التمويل الجماعي إضافة إلى الانفتاح على مدخلات أصحاب المصالح في القطاع العام والخاص والمستثمرين العالميين والشركاء.
كل ذلك لا يمكن تحقيقه من دون بنى أساسية متطورة تشكل العامل الخامس. وهنا لا نعني البنى الأساسية المناسبة للتحضّر فحسب كالطرقات وشبكات الإرسال لا بل أيضاً البنى الأساسية المادية والرقمية بما فيها المؤسسات التعليمية وشبكات القيمة المتنوعة التي تساهم في تطور الأفراد وإحلال الثقة ونشر الأفكار وإيجاد ثقافة اشتراكية.
في النهاية، يبقى القرار بيد قيادات هذه المدن، قيادات لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار الأوجه السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأكثر ملاءمة مع مستقبلها وأن تدرك أن المسار الذي تختاره المدينة لا يحدد هويتها المحلية فحسب لا بل أيضاً تأثيرها العالمي.
متخصصة في الثقافة والمواضيع الاجتماعية