الانحياز للأيديولوجيا

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٦/أبريل/٢٠١٧ ٠٤:٤٥ ص

أندريس فيلاسكو
كاد مشروع قانون الرعاية الصحية لدونالد ترامب الذي يُطلق عليه اسم «ريانكير» نسبة إلى رئيس مجلس النواب بول رايان أن يحرم 24 مليون أمريكي من التأمين الصحي، وفقا لمكتب ميزانية الكونجرس الأمريكي. لكن هذا لم يكن السبب في رفضه من قبل الجمهوريين الأكثر تحفظا. رغم أنه كان سيحقق لترامب ولحزبه انتصارا سياسيا، رفض المحافظون التصويت لصالح المشروع لأنه لم يبذل أي مجهود لإلغاء قانون الرعاية المتاح «أوباما كير» والذي يكرهونه.

كان من الممكن أن يحتفظ ريانكير بقانون أوباما كير الذي يمنع شركات التأمين من استبعاد الأشخاص الذين يعانون من ظروف مرضية مسبقا. وكان من شأنه أن يوفر إعفاءات ضريبية لمساعدة الأشخاص ذوي الدخل المنخفض لشراء التأمين الصحي. لكن بالنسبة للمحافظين في المجمع الانتخابي، هذه الميزات، رغم شعبيتها، عبارة عن دعم للاشتراكية. وبذلك حقق معارضو المشروع انتصار الأيديولوجية على النفعية السياسية.
إن عودة الأيديولوجية ليست مجرد ظاهرة يمينية، ولا تقتصر على الولايات المتحدة. مثلا نقل جيريمي كوربين حزب العمل في المملكة المتحدة بشكل حاد إلى اليسار وبعيدا عن النهج العملي لتوني بلير. ويشير وضعه الكئيب في استطلاعات الرأي إلى أن كوربين، مثل الجمهوريين المحافظين، يفضل أن يشعر بالصفاء أيديولوجيا على أن يكون فعالا سياسيا.
لكن ما هي الأيديولوجية بالضبط؟ ولماذا عادت؟
الأيديولوجية السياسية، مثل الكوليســــترول، تتكون من نوعين: جيد وسيئ. الأيديولوجية الجيدة أداة تنظيمية لإضفاء معنى على عالم معقد. وتعد نماذج الاقتصاديين نوعا من أنواع الأيديولوجـــية: فهي تبسط العــــالم، وتؤكد على بعـــض الروابـط الســببية وتقلل من الروابــط الأخرى، وتسمح لنا بمعرفة الأدوار المنوطة بكل شخص. وكما يقول داني رودريك من جامعــة هارفارد، « الفهم يتطلب البساطة».
هل الرأسمالية عادلة؟ بعض الناس سيجيبون بنعم، لأن المنافسة في الأسواق تفرض أن يتقاضى العمال أجرا بحسب ما ينتجونه، لكن الناس الآخرين لا يتوافقون مع هذا الرأي، لأن أصحاب رأس المال يستغلون هؤلاء بلا خجل. ويمكن أن تكون هذه المقترحات (الأيديولوجية) صحيحة كما يمكن أن تكون خاطئة. لكن من خلال وضعها في الأمام، ومواجهتها بالواقع، نتعلم شيئا عن العالم.
هناك كلمة أكثر رسمية -وأكثر حداثة- للأيديولوجية هي السرد. لقد فهم الكتاب والسياسيون الناجحون منذ زمن طويل أهمية السرد الجيد. وبدأ علماء الاجتماع الآن فقط في تقدير الدور الرئيسي الذي يلعبه السرد.
ويُعَرف روبرت شيلر الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل السرد بأنه «قصة بسيطة أو تفسير واضح للأحداث». وقال شيلر «على الاقتصاد السردي الجديد» أن يدرس «انتشار وديناميات الروايات الشعبية.. -وخاصة تلك التي تهم الإنسان أو العاطفة- وكيف تتغير هذه التغيرات عبر الزمن، لفهم التقلبات الاقتصادية».
وإذا كانت تنبؤات السرد أو الأيديولوجية تتعارض مع الواقع، فيمكن للمرء أن يغير السرد أو يغير الحقائق. والخيار الثاني هو عندما نواجه روايات سيئة -وأيديولوجية رديئة- إذ تصبح السياسات بعيدة عن الحقيقة أو الواقع.
ويأتي هذا الخيار نتيجة الأيديولوجيات التي ليست مجرد أجهزة تعليمية، كما أنها تخدم أغراضا اجتماعية ونفسية. في كتابهم الكلاسيكي للعام 1950 تحت عنوان «الشخصية الاستبدادية»، أشار المنظر الاجتماعي الألماني ثيودور أدورنو وشركاؤه في التأليف إلى أن «الأيديولوجيات لديها درجات مختلفة من الدوافع» اعتمادا على «احتياجات الفرد ودرجة تلبية هذه الاحتياجات أو صدها». في الآونة الأخيرة، قال عالم النفس الاجتماعي في جامعة نيويورك جون جوست إن «الأيديولوجيات ونظم المعتقد الأخرى تنمو نتيجة محاولات لتلبية الاحتياجات المعرفية والوجودية والعلائقية للبشرية».
لفهم العودة الأخيرة للأيديولوجية، لا بد من التركيز على كلمة علائقية في هذا الاستشهاد. أي شخص يعتقد أن الرأسمالية غير عادلة يتقاسم نفش الشعور مع الآخرين الذين لديهم نفس الاعتقاد. إذا استمرت هذه المصادفة لبعض الوقت، وإذا اجتمع أصحاب هذا الاعتقاد، وقاموا بنقاشات، وتنظيمات، وحشد لصالح هذا الاعتقاد، فإن هوية المجموعة ستتطور. في النهاية، قد تكون الأيديولوجية أكثر أهمية، إذ إن الرابط الذي يجمع المجموعة هو مصدر تنوير حول طبيعة الرأسمالية.
كوزير للمالية التشيلي قبل بضع سنوات، تعلمتُ هذا الدرس بصعوبة. في احتفال نهاية العام مع برلمانيين من ائتلافي الخاص، رفعنا نَخبا لنجاحنا في الحصول على العديد من المشاريع العالية الجودة بدعم من المعارضة. لكن فشل الاحتفال وباتت الغرفة صامتة. ثم تحدث عضو كبير في مجلس الشيوخ: «من يهتم بالدعم الواسع يا معالي الوزير. ولكي نحافظ على اتحادنا، نحتاج إلى مشاريع تسمح لنا بخوض معركة مع المعارضة». كان هذا المنتخب يساريا من تشيلي، ولكن حسب المنطق (أو غير المنطق) كان موافقا لمفهوم اليمين المحافظ الذي أغرق ريانكير.
لذا فإن سياسة الأيديولوجية المتطرفة هي في النهاية نوع من سياسات الهوية. الضحية الأولى هي الحقيقة: تذهب الجائزة إلى الحجج التي تربط هوية المجموعة، وليس للحجج التي تلتزم بالحقائق. والضحية الثانية هي نوعية السياسة العامة: فالسياسات القائمة على الأدلة التي تتغير وفقا للظروف على أرض الواقع، أو وفق نهج عملي يحتفظ بالسياسات الناجعة ويتجاهل الفاشلة منها، لا تستطيع أن تحافظ على هوية المجموعة الواضحة إذا كانت السياسات التي تنادي بها المجموعة تتغير في كل وقت.
لكن اعتماد السياسة الأيديولوجية فقط على الهوية يضع لها حدودا تُقلص من تطورها. وكما قال مارك ليلا من جامعة كولومبيا، في المجتمعات الديمقراطية المعقدة والمتنوعة، النداءات الســـياســـية التي تســــتند فقــــط إلى الهويات الضــيقــة -سواء كانت مرتبطة بأيديولوجية أو الـــدين أو الانتماء- محكوم عليها بالفشل في النهاية. فإذا ناشدت مؤيديـك فقــط، فهـــم وحـــدهــم من سيعطــونك أصــواتهم.
لكن في حالات أخرى، تصبح تلك الحدود واضحة المعالم فقط مع مرور الوقت. من الآن فصاعدا، يمكن لسياسات الأيديولوجية المتطرفة، مثل الكوليسترول السيئ الذي تشبهه، أن تسبب قدرا كبيرا من الضرر. ومن بين الأمثلة نشير إلى مناقشة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة. وهناك أمثلة أخرى مقبلة.

وزير المالية ومرشح أسبق للرئاسة في تشيلي