الجدار العماني الصلب (1-2)

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٨/مارس/٢٠١٧ ٠٤:٣٥ ص
الجدار العماني الصلب (1-2)

محمد بن علي البلوشي

المؤكد أن القناة الغوغائية التي زعمت وجود تفرقة على أساس ديني أو مذهبي في عمان وساقت في مزاعمها التضليلية البعثات الدراسية تعلم علم اليقين أن ذلك ليس موجوداً لكنها تهدف من خلف ذلك إلى إحداث ثغرة وإن كانت بسيطة في الجدار الوطني العماني المتماسك والمتراص منذ مئات السنين..علها تظفر بالغوغاء ممن سيستجيبون لكذبها. وبالرغم من ذلك أزعم أن جدارنا قوياً ولن يتصدع بسبب هذه القنوات. ومن المؤكد أن وزارة التعليم العالي التي فندت تلك الاتهامات المغرضة لن تتلقى أية شكوى من عماني بسبب التمييز «المذهبي» وأدعو وزارة التعليم العالي أن تمنح مهلة شهر لأية شكوى بسبب التمييز المذهبي. وتفيدنا إعلاميا أن عمان كانت قد تلقت شكاوى من هذا النوع.

حينما سئل مفتي عام السلطنة عما يبدو أن العمانيين منعزلين عن العالم أجاب «العمانيون لم يعزلوا أنفسهم عن العالم، بل عزلوا أنفسهم عن الفتن» هذه كلمات مختصرة ودقيقة فانعزالهم عن الفتن ليس وليد اللحظة ولم يأت جزافاً فهو يخضع لبيئة وأرث موغل في القدم مع بيئة متعددة ومتجانسة ومتناغمة شكلت الثوب العماني الذي نلبسه ويشكلنا اليوم. دعونا الآن نتحدث عن الجدار العماني الصلب ونحفر في متانة أساساته وملامح هذا الجدار الصلب والذي ليس من السهل اختراقه لأن أساساته قوية وصلبة.
تنتشر في بعض محافظات البلاد عدد من الأضرحة «الدينية» مثل ضريح النبي عمران وضريح النبي أيوب ودحقة النبي صالح ويعتقد السكان أن هذه الأضرحة هي أضرحة بعض أنبياء الله وبعضها يتخذ أشكالاً مثل مواقع لأقدام يعتقد أنها ناقة النبي صالح وعدد من الأضرحة لما يعتبر في الثقافة المحلية «أولياء الله الصالحين» وتشكل أحيانا مزارات يفد إليها نفر من الناس دون خوف أو اعتراض من أحد لهدم تلك المزارات.
واحتراما لمعتقدات الناس فإن السلطة الحكومية احترمت هذا التراث فقامت بتسوير هذه الأضرحة وتنظيفها وتوظيف عاملين عليها ويعكس ذلك عدم تدخل السلطة السياسية أو المرجعية الدينية في معتقدات الناس طالما لا تضر أحداً وتتخذ تبايناً فقهياً فيها وهذه الأضرحة هي محل احترام الجميع ويفد إليها الزوار والسياح بعضهم يقرأ الأدعية وبعضهم يشاهدها ويخرج.
كذلك فإن مظاهر التراث الصوفي وغيره تحتل ركناً في التراث الاجتماعي كالمالد والبرزنجي والزار وغيره والتي يعرف الجميع عنها الكثير.
حسنا نأتي إلى المشهد التخيلي الأتي: كيف سيصبح الأمر حينما تتلبسنا القراءات الداعشية للحياة والبيئة ومنها أفكار القناة المظللة.. كلكم الآن في هذه اللحظة تفكرون بمشاهد رأيتموها على شاشات التلفاز من كسر التماثيل الأثرية التي تعود لفترات تاريخية سحيقة ما قبل الميلاد.. تتصورون مثلا قيام طالبان بهدم تماثيل في أفغانستان على أنها أصنام والحقيقة أنها لا تعبد بل هي شاهد إنساني على تاريخ الناس وحياتهم في حقبة زمنية. وتتخيلون أن القناة ستتهمنا بأننا من عباد القبور وكل ما ينضح به إناؤها من مخزون.
إن هذا التراث ولنسمّه الاجتماعي أو الديني كان محاطاً بسلطة سياسية قديمة احترمت تفكير الناس وتراثهم وما يعتقدونه وهو ليس وليد اليوم بقدر ما هو قائم منذ مئات السنوات. هذا كله يتشكل مع البعد الحضاري للتعايش العماني والقبول المتبادل بينهم.
حينما انتشرت موجة الدعوة في الثمانينات أو أوائل التسعينات حظيت هذه الموجة بنقد بعضه ســاخر فبعضهم اطلقوا عليهم أهل الندوة.. وتندر العمانيون عليهم بتركهم بيوتهم للخروج إلى أماكن أخرى للاعتكاف أو ترسيخ الدين وكأن الناس عرفت الدين من قريب فقط أو أنها تجهله أو أنه لا يدرس في المدارس الحكومية والخاصة.. ومنهم ربما من ذهب إلى كراتشي أو قندهار لنشر الإسلام بين الأفغان والباكستان لكنني لا أعرف عدد من ذهبوا إلى هذين البلدين فالإحصائيات تعلمها السلطات الرسمية في البلد.
واليوم ليس مفاجئاً أن يبدي العمانيون استغراباً وذهولاً من الاقتتال في بعض الدول العربية ونشوء الجماعات الراديكالية أو ممن تطلق على نفسها إسلامية ولأن داعش هي الأكثر شهرة وقوة بسبب فيديوهات الرعب التي تبثها على الفضاء الإلكتروني حيث يلمع نجمها وسحبت بساط النجومية من القاعدة فقد عاد الحديث عن التطرف والعيش المشترك إلى الواجهة بقوة.
عمان بلد متنوع في الجغرافيا والمناخ والأصول والأعراق والمذاهب هذه كلها شكلت طبيعة الشخصية العمانية حسب الجغرافيا وحسب المنابع والأصول لكنها ليست وليدة الأمس القريب ليكون حديثنا عن التعايش المشترك وحوار المذاهب أو حوارا وطنيا أشبه بالدهشة... الآخرون مدهوشون بنا لكننا لسنا مندهشين بأنفسنا.
فنحن لا نعاني من هذا الإشكال ليس لسبب قهري فرض علينا بالقوة بل لأن التاريخ والجغرافيا حتمت على العمانيين أن يحافظوا على تعايشهم المشترك على الأرض هم كلهم قادمون ووافدون على هذه الأرض بدءا من مالك بن فهم حتى الهجرات الحديثة والهجرات كلها كانت طبيعية وإلى أرض واحدة هي عمان الطبيعية فالسواحل مفتوحة والتواصل الإنساني ساد تلك الحقب التاريخية ومن ثم توج ذلك برغبتهم إلى استكشاف العالم والجوار وتكوين ممالك وراء البحار.
إن معظم أشكال الغلو ومحاولة فرض أنماط باسم الدين هي محاولات مستوردة ويائسة ومحاولة لاستنساخ قوالب مشوهة يمارسها البعض باسم الدين في هذا الإقليم الكبير بما يطلق عليه منطقة الشرق الأوسط.. هذا المحيط الذي نحن جزء منه وسنكون فيه إلى أن «يرث الله الأرض» لكن ونحن نعيش ضمن منطقة واسعة وخصبة من الاضطرابات الطائفية الناتجة عن صراع وجدل قديم يهدف إلى الإمساك بالسلطة لفرض مرجعية أحادية تقصي الآخرين وتمارس قوالب «شبه رجعية» فإنه يمكن أن نجد تفسيراً لذلك وهو تدخل جماعة في معتقدات الناس.. إن تدخل أي جماعة في ذلك تحت أي ذريعة هو بداية لمحاولة تشكيل فكرة أحادية وفرضها على الناس. ومن هنا تنمو الأفكار الداعشية والتي تغذيها بعض القنوات الراديكالية.
كما أن من الأقاليم في المنطقة لم تملك من التفاعل والتواصل الحضاري والإنساني مع شعوب العالم ما يمكنها من الخروج من «القالب المتجمد» لذلك بقيت أفكارهم أحادية الرؤية في محاولة لفرضها وإملائها على الآخرين باسم الدين..العمانيون عكسوا ذلك تماما فمجمل تاريخهم بما فيه التاريخ السياسي حيث إن نشأت عمان ككيان سياسي قائم قديم جداً ويتجاوز 2000 عام وربما أكثر وعلى هذا الامتداد التاريخي عاش-العمانيون- في تفاعل حضاري وإنساني مع عدد من شعوب العالم تفاعلوا فيه بكل مكوناتهم واختلطوا بهم..كل ذلك انجلى على تفكيرهم في نظرتهم للتعامل مع الآخرين مرتكزها الاحترام واحترام المعتقدات والأفكار والقبول بالمبدأ الإنساني المستمد من الدين بحسن الخلق والتعامل عند الآخرين إضافة إلى الفهم الصحيح للتراث الفقهي الديني الذي يملكونه.

وللحديث بقية