مسقط الثالثة عربياً والأولى في قلوبنا

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٨/مارس/٢٠١٧ ٠٤:١٠ ص
مسقط الثالثة عربياً والأولى في قلوبنا

محمد محفوظ العارضي

غالباً ما تُعتبر الكتابة عن الوطن بعيدة عن الدقة والموضوعية، وأن الشهادة بحق الوطن ومدنه ومعالمه وتاريخه، وشعبه وعاداته وثقافته، شهادة مجروحة لأنها منحازة عاطفياً لمكان يمثل ذكرياتنا وأحلامنا وحاضرنا ومستقبلنا، بل يمثل رمز عزتنا وهويتنا الوطنية والإنسانية.

لكن من قال إن الكتابة عما نحب يجب أن تكون موضوعية وغير منحازة، هل منا من يستطيع أن يتجرد من عواطفه ليكتب عمن شكل وجدانه وشخصيته وثقافته؟ لا اعتقد ذلك، لذا فإني أقرّ أمامكم أن مقالتي هذه منحازة بالمطلق، وخارجة عن معايير تقييم الجودة التقنية التي على أساسها تم اختيار مسقط المدينة الثالثة عربياً من حيث جودة المعيشة، هذا التقييم الذي نفخر به كمواطنين عمانيين وعرب أحبوا هذه المدينة ولامست طيبة أهلها قلوبهم وحفرت في وجدانهم سطور عشقها.

مسقط التي جاءت الثالثة في الترتيب بعد دبي وأبو ظبي، ليست الثالثة في ترتيب الثروة العربية التقليدية. لقد تفوقت الثروة الاجتماعية والثقافية، ثروة التاريخ العريق والشعب المبدع في تنظيمه الاجتماعي وفي أخلاقياته وعلاقاته، على كافة الثروات فتقدمت مسقط على مدن أخرى تفوقها ثروة وحداثة.
أما لماذا تحتل مسقط المكانة الأولى في قلوبنا، فالسبب أن كافة المعايير والمؤشرات العالمية لن تستطيع أن ترصد تلك التفاصيل الصغيرة التي تربطنا وجدانيا بهذه المدينة، لن تستطيع أن تحدد الإطار العام لعلاقة عاطفية بين الإنسان والمكان، فمعرفة المدن تماماً كمعرفة الأشخاص، تثبت جدارتها من خلال مواقف وأحداث قد تبدو عابرة للوهلة الأولى لكنها تحمل في معانيها أصالة وحميمية كبيرة.
من التضاريس القاسية ظهرت مسقط، من رحم الطبيعة الغنية بالملامح والصور، وبدأت حكايتها فصولاً متداخلة، تجمع الحداثة بالأصالة، النشاط بالهدوء والنظافة، الجمال بالعراقة، والطيبة بالثقافة والوعي بمعنى المواطنة والانتماء.
ولعل الواقع الاجتماعي المميز للمدينة، الذي يمثل ليس التعايش بين المذاهب المختلفة بل الانسجام والتناغم تحت مظلة القانون ومبادئ المساواة في الحقوق والمواطنة واستحقاقات الانتماء، هو أولى الظواهر التي تجذب الزائرين. لقد أصبح الاستقرار الاجتماعي في زمن سيادة ثقافة التفكك والكراهية، من أهم ملامح التفوق والنجاح، ومن يدخل مسقط تأسره حالة التآخي التاريخي بين مكوناتها الاجتماعية ويأسره عمق الروابط وصلابة القناعة بأن هذه الروابط أصل التنمية والتقدم والازدهار.
لم تأت هذه الروابط الاجتماعية في عُمان كتحصيل حاصل، أو لأن السلطنة معزولة عن محيطها الإقليمي والعالمي وبالتالي لا تتأثر بمجريات الأمور في هذا المحيط، بل جاءت نتيجة لقرار اجتماعي واعٍ، اختار البقاء بلا تردد لمعرفته أن التفكك الاجتماعي أساس الفناء... وجاءت نتيجة طبيعية للسياسات الإيجابية الحكيمة التي تتبعها السلطنة تجاه القضايا العربية والعالمية، وللثقة المتبادلة بين الشعب والقيادة.
إن مجتمع السلطنة مدرك بفطرته، أن للدول والمجتمعات رسالة إنسانية تمارسها عبر مواقفها تجاه القضايا الخارجية، وأنه لا يكفي أن تكون مستقرة في داخلها، بل عليها أن تلعب دوراً محورياً في صناعة استقرار غيرها من الدول.
في ترتيب مؤشر الإرهاب الدولي، جاءت عمان في المرتبة الأخيرة، وحصلت على صفر نقاط من أصل 10. الإرهاب، هذا الخطر الذي بات يهدد الكثير من مدن وعواصم العالم على اختلاف مواقعها ومكانتها، يخشى الاقتراب من واقع عمان، فلا مكان له في هذا النسيج الاجتماعي والثقافي المتراص والمحكم الذي جاء نتيجة لخطاب لا خلاف عليه، يتبنى مفردات التعايش والتسامح وتغليب المصلحة الوطنية العليا من قبل رواد الفكر والفلسفة والأكاديميا والدين، بل إن للفن العماني أيضاً، رسالة ملتزمة بالتعايش والتناغم والانسجام، حاله حال كل تفصيلة تعبّر عن هذا الواقع في السلطنة.
عندما أقرأ عن مسقط والسلطنة في كتابات من زاروها، أفتخر بالكم الهائل من المشاعر التي أثارتها فيهم طيبة أهلها، وبالرغم من النقد السائد اليوم في كتابات الكثير من المثقفين إلا أن حجم محبة مسقط لزائريها لن تبقى على أي مساحة للوم والعتاب. أتذكر كلمات الكاتب العربي زهير ماجد عندما كتب مخاطباً أحد أصدقائه الأمريكان عن شعب السلطنة قائلاً: «قلوب أهلها قناديل أضاءها الحب للآخر من أي مكان كان.. يشعر العماني بالتأهيل لأي قادم باحث عن بلاده لأنه يعرف سلفا أن خياره لن يكون العودة الى بلاده التي تركها بعدما اكتشف سحر عمان وقدرتها على الجذب. الشعب العماني.. ذخيرة مخبأة لحكم العالم من أجل اتزانه وتوازنه واستقامته وعدالته وهدوئه ومحبته. العمانيون اليوم تجاوزوا شعوب الأرض لأنهم أحبوا بلادهم الى حد الانصهار».
في هذه المقالة لن أكتب عن الجوانب الأخرى من إنجازات مسقط التي أهلتها للفوز بهذه المرتبة. لن أكتب عن البنية التحتية والخدمات وخطوط المواصلات والتنظيم الإدارة... لن أكتب عن اقتصاد يمضي نحو النمو والازدهار، بثقة يستمدها من ثقة الشعب بذاته... لن أكتب عن تفوق المدينة في قطاع التعليم أو الصحة وعن مستوى الخدمات التي يحصل عليها المواطن من هذين القطاعين بالمجان.... كل هذه المنجزات لا تعني شيئاً بدون المحيط الاجتماعي التي أنتجها ورعاها بجهده وأوصلها عما هي عليه الآن... لذلك كتبت عن الناس لأنهم أصل كل الروايات المبدعة التي يحملها التاريخ ويتلهف المستقبل إلى سماعها.

رئيس مجلس إدارة البنك الوطني العماني