في 1949 كانت الأمية في الصين قد استبدت بـ 80 % من سكان الدولة، نصفهم عاطلون، وثلثهم يعانون من الأمراض والجوع..
كان الآباء يبيعون أطفالهم من شدة الفقر.. وكانت العصابات تتكاثر وتسيطر على الأحياء وتحكم القرى بالرعب.
كان الوضع أقسى من أن يوصف، وكانت الهزيمة النفسية قد حولت الصين لدولة مضطربة داخليا مستغلة خارجيا..
لم تكن خطة "دينج تساو بينج" لقلب الطاولة معقدة. كل ما فعله هو أن سنّ عقيدة جديدة قوامها العمل. أخبر الشعب الصيني أن قطار التنمية سيمر على جثث المتكاسلين والمتخاذلين، وعسكر كل شيء في البلاد – بما في ذلك وسائل الإعلام - لتكون يدا للنظام تروج لقيم العمل وقدسيته..
غيرت الصين قدرها.. ذعرت الدول الغربية وأوصدت أبواب أسواقها، ورفعت الضرائب على المنتجات الصينية لتحفظ منتجاتها الوطنية من الكساد ولكنهم انهزموا بعد طول مقاومة وقصدوا المناطق الحرة في الصين لتصنيع منتجاتهم بعد أن وجدوا أن مقارعة هذا المارد أصعب مما ظنوا..
ألمانيا، وبعد أن دمرها غرور هتلر وقسمها تآمر دول المحور، شحذت همتها ورفعت نفسها بالصناعة والعمل حتى غدت أقوى الدول الأوربية باحتياطي نقدي بلغ 3 تريليونات يورو..
اليابان التي خرجت من بعد هيروشيما منهكة مشوهة المعالم لم تفكر في الانتقام بالسلاح بل تفوقت على خصومها بالعلم والعمل وصار دخل الفرد فيها يفوق نظيره الأمريكي بثلاث مرات على الأقل..
إنها أمم نهضت بعد موت وانتصرت بعد هزيمة بشيء واحد فقط.. العمل.
في تلك الدول يُربى المرء على أن لا ينظر لراتبه ولا لامتيازات وظيفته بل ينظر للعمل بتجرد على أنه شرف وقيمة في ذاته.. وهو مبدأ راسخ في الثقافة الإسلامية بالمناسبة.. فالعمل في ثقافتنا المندثرة جهاد. يُروى أن صحابة رأوا شابا قويا يكد في عمله فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله، فردَّ عليهم النبي - صلَّى الله عليه وآله – بقوله: "إنْ كان خرَج يسعى على ولده صِغارًا فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على أبوَيْن شيخَيْن كبيرَيْن فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله".
ولكن.. هذا الخطاب غائب عن الوعاظ ووسائل الإعلام والتربية، لذا نجد أنفسنا أمام أجيال لو كان لبعضهم خيار الحصول على رواتب دون عمل لما ترددوا، لذا تجدهم "عواطلية" في أغلب الدول الأوروبية لوجود معونات تسمح لهم بذلك !!
أمر يدعو للدهشة بحق، لا سيما لو علمنا أن الأنبياء والصحابة أنفسهم كانوا قدوة في العمل ولم يكونوا عالة يوما.. فآدم عمل في الزراعة، وكان النبي زكريا نجارا ومثله نبي الله نوح. وكان النبي موسى - كنبينا الكريم- راعيا، فيما كان النبي داوود حدادا، وعلى هديهم سار الصحابة والصالحين الذين لم يستنكف أحد منهم عن العمل ولم يتخذ من الدعوة مصدرا للرزق..!
ما علينا.. ولندع الخلق للخالق.
لكن عليا أن لا نيأس من استنهاض الهمم في دولنا.. ونبدأ بتربية الفرد على احترام العمل وتقديسه.. فهذا هو بيت الداء وبيت الدواء في بلداننا.
ومن يحيي العظام وهي رميم قادر على أن يحيي بلادنا المتقهقرة هذه بعد طول سبات.