تطبيق نظام الدخل

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٧/مارس/٢٠١٧ ٠٤:١٤ ص
تطبيق نظام الدخل

كمال درويش
واشنطن العاصمة، لفتت خطط الدخل الأساسي العالمي الكثير من الانتباه هذه الأيام. وبالطبع، فإن الفكرة ليست جديدة أي تزويد جميع المقيمين القانونيين في أي دولة بمبلغ قياسي غير مرتبط بالعمل فلقد دعا الفيلسوف توماس مور إلى ذلك في القرن السادس عشر، وطالب بذلك كثيرون غيره ومنهم ميلتون فريدمان من اليمين وجون كينيث غالبرايث من اليسار، ولقد دعموا أشكالا مختلفة من هذه الفكرة على مدار السنين ولكن الفكرة اكتسبت زخما أكبر مؤخرا ويعتبرها البعض حلاً لاضطرابات الاقتصاد التي تسببت فيها التكنولوجيا في العصر الحاضر. فهل يمكن أن تنجح؟

إن جاذبية الدخل الأساسي العالمي متأصلة في ثلاث سمات رئيسية: أنه يقدم «أرضية» اجتماعية أساسية لجميع المواطنين، وأنه يتيح الفرصة للأشخاص أن يختاروا كيفية استخدام هذا الدعم، ويمكن أن يساعد على تبسيط البيروقراطية التي تعتمد عليها الكثير من برامج الدعم الاجتماعية ويكون الدخل الأساسي العالمي «قابلاً للانتقال» بالكامل، ولهذا يساعد المواطنين الذين يغيرون الوظائف على نحو متكرر، ولا يمكن أن يعتمدوا على صاحب عمل طويل الأمد للتأمين الاجتماعي أو يعملون لحسابهم الخاص.

وبالنظر إلى الدخل الأساسي العالمي بوصفه وسيلة مباشرة للحد من الفقر، فإن الكثيرين من اليسار جعلوه جزءا من برنامجهم ويحب الكثيرون من الليبراليين الفكرة لأنها تتطلب من متلقي المساعدة أن يختاروا بحرية كيفية إنفاق الأموال وحتى فاحشي الثراء يدعمون هذه الفكرة أحيانا لأنها سوف تساعدهم على أن يذهبوا إلى فراشهم وهم يعلمون أن ضرائبهم قد قضت نهائيا وبفاعلية على الفقر المدفع.
وتروق فكرة الدخل الأساسي العالمي لهؤلاء الذين يركزون على الكيفية التي يمكن بها لتنمية الاقتصاد أن تحل على الأقل محل بعض المعونات العينية التي تعطى الآن للفقراء. وبالفعل، تحتوي الكثير من البرامج الاجتماعية المحلية في أمريكا اللاتينية على عناصر من مكونات فكرة الدخل الأساسي العالمي، رغم أنها تستهدف الفقراء وتكون مشروطة عادة ببعض السلوكيات مثل جعل الأولاد يواظبون على حضور المدرسة.
ولكن تنفيذ برنامج كامل للدخل الأساسي العالمي سيكون صعبا وهذا مرجعه أنه سوف يتطلب الإجابة على بعض الأسئلة المعقدة حول الأهداف والأولويات وربما أكثر التصرفات الواضحة التي تستهدف تحقيق التوازن يتصل بكمية الأموال التي تصل إلى كل مواطن بالفعل (أو المقيم القانوني).
في الولايات المتحدة وأوروبا لنقل أن خطة الدخل الأساسي العالمي بمقدار 2000 دولار سنويا لن تكون كافية على الإطلاق، إلا أنها قد تحسن أحوال الفئات الأشد فقرا، حتى لو أضيفت إلى برامج الرفاهية الاجتماعية الحالية ولكن خطة الدخل الأساسي العالمي بمبلغ 10,000 دولار سوف تحدث فارقًا بالتأكيد، ولكن اعتمادا على عدد الأشخاص المؤهلين لتلقي الدعم فإن هذا سوف يكلف 10 % أو 15 % من الناتج المحلي الإجمالي وهي نفقات مالية ضخمة وخاصة إذا تم إضافتها إلى البرامج الاجتماعية القائمة.
وحتى مع الزيادة الكبيرة في الإيرادات الضريبية، سيتعين تطبيق هذا الدخل الأساسي المرتفع مع إجراء تخفيضات تدريجية في بعض جوانب الإنفاق العام القائم -على سبيل المثال، على إعانات البطالة والتعليم والصحة والنقل والإسكان- لتكون مجدية من الناحية المالية وسيعتمد النظام الذي سيتشكل في نهاية المطاف على كيفية إحداث توازن بين هذه المكونات.
وفي سوق العمل الحالي، والذي دخل مرحلة تحول كبيرة بسبب التكنولوجيا الرقمية، فإن أحد أهم السمات التي يتسم بها الدخل الأساسي العالمي هي قابلية الانتقال. وبالفعل، فإن الإصرار على درجة أعلى من مرونة سوق القوى العاملة، بدون ضمان أن العمال الذين يواجهون الحاجة المستمرة للتكيف مع الاضطرابات التكنولوجية يمكنهم أن يعولوا على شبكات الأمان الاجتماعي المستمرة، فإن هذا ما هي إلا دعوة إلى إيجاد عالم غير متوازن يتمتع فيه أرباب العمل بكل المرونة ولا يحصل الموظفون فيه إلا على النذر اليسير من تلك المرونة.
ويتطلب جعل أسواق القوى العاملة الحديثة تتسم بالمرونة لأرباب العمل والموظفين على حد سواء إيجاد بعض السمات الجوهرية لنظام الدخل الأساسي العالمي مثل قابلية التنقل والاختيار الحر ولكن فقط أكثر الليبراليين تشددا قد يجادلون أن الأموال ينبغي أن تمنح بدون أي توجيهات تتعلق بالسياسات. إن من الأفضل إنشاء سياسة اجتماعية نشطة تكميلية تقدم التوجيهات إلى حد ما حول استخدام تلك المخصصات.
وعند هذه النقطة نشير إلى أن هناك مقترحا ظهر في فرنسا وهو خطوة في الاتجاه الصحيح، والفكرة هي منح كل مواطن حسابا اجتماعيا شخصيا يحتوي على «نقاط» يمكن استردادها جزئيا. وهذه الحسابات سوف تصير مثل حسابات الادخار حيث يمكن أن يزيد أصحابها المساهمة العامة الكبيرة في هذه الحسابات عن طريق العمل أو الدراسة أو أداء بعض أنواع الخدمات الوطنية ويمكن السحب من هذه الحسابات في أوقات الحاجة، لاسيما للتدريب واكتساب المهارات الجديدة رغم من أن المبلغ الذي يمكن سحبه يكون موجها «بأسعار» محددة سلفا ومقيدة بمبلغ معين في فترة زمنية معينة.
ويبدو أن هذا النهج تسوية جيدة بين قابلية الانتقال والاختيار الشخصي من ناحية وتوجيهات كافية في مجال السياسات الاجتماعية من ناحية أخرى وهو يحتوي على عناصر من الضمان الاجتماعي الأمريكي وحسابات التقاعد الفردية، وذلك مع إبداء التزام تجاه التدريب واكتساب المهارات الجديدة ويمكن دمج هذا البرنامج مع نظام تقاعد أكثر مرونة ومن ثم يتطور إلى نظام حديث وشامل للتكافل الاجتماعي.
والتحدي الآن -بالنسبة للاقتصادات المتقدمة على أقل تقدير- يتمثل في تطوير أنظمة أكثر قوة واستمرارية للتكافل الاجتماعي، وإفساح المجال لمزيد من الاختيار الفردي في استخدام المخصصات وجعل المخصصات قابلة للانتقال وفقط عند تحقيق التوازن الصحيح بين الاختيار الشخصي وتوجيهات السياسات الاجتماعية تستطيع النظم الاقتصادية الحديثة أن تبني برامج السلامة الاجتماعية التي تحتاج إليها.

وزير الشؤون الاقتصادية التركي الأسبق

والمدير السابق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي