عودة الإستراتيجية الصناعية

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٧/مارس/٢٠١٧ ٠٤:١٣ ص
عودة الإستراتيجية الصناعية

باولا سوباتشي
تعود السياسة الصناعية إلى الواجهة في العديد من الاقتصادات المتقدمة اليوم، فبعدما تم التخلي عنها خلال فترة الازدهار في الثمانينيات لكونها ساهمت في ركود العقد الفائت، يُنظر إليها في الوقت الراهن كوسيلة للحد من هروب الناخبين المنتمين إلى الطبقة العاملة نحو الأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية. لكن وضع إستراتيجية صناعية حديثة وفعالة لن يكون عملاً سهلاً. ويسعى الاتحاد الأوروبي إلى تحديد إطار ثابت لمعالجة هذا الموضوع منذ العام 2014، عندما نشر تحليلاً لمزايا وعيوب السياسة الصناعية. كما أصدرت المملكة المتحدة بعد ذلك في يناير مسودة حول بناء إستراتيجية صناعية. كذلك ركز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أيضا على السياسة الصناعية، لكنه قد يسمح بتدخل الدولة وباتخاذ تدابير حمائية.

إن رؤية ترامب الرجعية، رغم احتوائها على القليل من التفاصيل إلا أنها حتماً خاطئة. في المقابل يعد نهج أوروبا في الإستراتيجية الصناعية بإيجابيات كثيرة، على الأقل في ما يتعلق بتجنب التدخلات التي كانت تحصل في الماضي وتؤدي إلى «اختيار الفائزين». في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، تتوقع الحكومة أن تركز بدلا من ذلك على «التدخلات الهادفة» التي تعزز الحوافز الإيجابية، وتعالج إخفاقات السوق والتحديات الاجتماعية والجغرافية والقضايا التي تواجه القطاع. ومن الواضح أن القادة السياسيين قد تعلموا بعض الدروس المهمة من التاريخ.

لكن لا تزال هناك تحديات مهمة، فالحكومات الأوروبية تعتقد بأنها تستطيع تطبيق سياسات فورية تعزز «يدها الخفية»، وأن تلك السياسات ستجد طريقها بشكل أو بآخر ضمن إطار متكامل. إن هذه المقاربة تبعث على التفاؤل في أحسن الأحوال.
إن الخطة الجديدة للمملكة المتحدة لا تحدد بدقة الهدف الرئيسي من الإستراتيجية. هل هو لدعم نمو الناتج المحلي الإجمالي عندما لا تعود المملكة المتحدة جزءاً من السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي؟ أم لتعزيز الإنتاج المحتمل للاقتصاد البريطاني (وذلك لزيادة نمو الاتجاه على المدى الطويل)؟ وتشير خطة الحكومة إلى كلا الهدفين، لكنها لم تشر إلى كيفية تحقيق التوازن بينهما.
على قادة المملكة المتحدة أن يتنبهوا إلى حقيقة مهمة وهي أن هذه الإستراتيجية قد تندرج في إطار رسوم جمركية أعلى على الاتحاد الأوروبي -السوق الرئيسية لبريطانيا- فيما هي تهدف أساساً إلى تعزيز النمو في مرحلة ما بعد بريكست. ومن شأن هذه الإستراتيجية أيضاً أن تأخذ بعين الاعتبار القدرة التنافسية العالمية للصناعة البريطانية، وتستكمل السياسة التجارية المستقلة الجديدة للبلاد.
وفي الوقت نفسه، يجب على الحكومة البريطانية ألا تنشغل بالحفاظ على نمو قصير المدى وعلى الوظائف وسط بريكست وتتجاهل الحاجة إلى تعزيز إمكانات النمو على المدى الطويل. ومما يثير القلق أن الإستراتيجية المقترحة قد تركز بشكل مبالغ فيه على تقويض دور الحكومة في الاقتصاد.
الحكومات محقة في تجنب اختيار الفائزين، لكنها تحتاج في الوقت نفسه إلى المحافظة على دورها بطرق أخرى، وتحديداً من خلال تحليل ورصد القطاعات الأكثر قدرة على المساهمة في نمو طويل الأجل والعمل على تعزيز هذه القطاعات ودعم نجاحها بشتى الطرق حتى لو ترتب عنها مخاطر مالية. ولو كانت هناك مخاطر مالية حقيقية.
على سبيل المثال، ينبغي على الحكومات الاستثمار بشكل كبير في مشاريع البنية الأساسية التي تنتج عنها إيجابيات كثيرة -مثل اختصار الوقت في التنقل، الذي يؤثر بدوره بشكل إيجابي اقتصادياً واجتماعياً- هذا النوع من الاستثمارات قد يكون كبيراً ومحفوفاً بالمخاطر بالنسبة للقطاع الخاص لكنّ القطاع الحكومي قادر على تولي هذه المهمة لأن يستطيع الوصول إلى مجموعة واسعة من المعلومات.
ثمة عنصر آخر غائب في النقاش الدائر حاليا حول السياسة الصناعية في أوروبا وهو الجدول الزمني المطلوب. والحقيقة أن الإستراتيجية التي وضعت اليوم قد تستغرق جيلا بكامله لتحقيق النتائج المرجوة (مثل إصلاح التعليم). لذلك فإن الإستراتيجية الصناعية الفعالة يجب أن تحدد ليس فقط الإطار الزمني العام، ولكن أيضا الخطوات الأساسية التي يجب اتباعها لتحقيق الأهداف. وتتطلب الإستراتيجية الصناعية الحديثة والفعالة حسابات دقيقة للأصول والموارد، بما في ذلك رأس المال البشري، الذي يحتاجه الاقتصاد خلال السنوات المقبلة. كما يتوجب على الإستراتيجية أن تتضمن حسابات للمواد المالية والاقتصادية للبلدان المجاورة واعتبارها كمصادر للإمداد وكأسواق مستهدفة لتوزيع السلع.
أما العنصر الحاسم والأخير لاستراتيجية صناعية فعالة فهو الإطار المؤسسي الذي تعتمد عليه. لكن على المؤسسات تجاوز ربط القطاعات بالمناطق لضمان الشفافية والمساءلة، وخاصة في العلاقة بين القطاعين الخاص والعام.
انطلاقاً من كل هذه المعطيات يجب على القادة التفكير ملياً في المؤسسات المطلوبة وإذا كانت قائمة أو تحتاج إلى تطوير. ومن الضروري عدم اللجوء إلى إغلاق المؤسسات الضعيفة أو غير الفعالة، والعمل في كيفية إصلاحها وتعزيزها.
الاقتصاد العالمي على مفترق تغيرات مهمة وعلى القادة التحرك الآن لتحديد الرؤية الاستراتيجية الشاملة التي تسهم في مواجهة التحديات المقبلة. يجب أن تكون هذه الرؤية جريئة وطموحة، ويجب قبل كل شيء، أن تكون مشتركة. ففي زمن تنامي الاستقطاب، يبدو هذا الهدف الأصعب على الإطلاق.

مديرة الأبحاث في الاقتصاد الدولي في تشاتام هاوس