جامعة صغيرة بعقول ثرية

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٦/مارس/٢٠١٧ ٠٤:٠٧ ص
جامعة صغيرة بعقول ثرية

د. محمد ناجي الكـعـبي

لا بد لي قبل الخوض في هذه الخاطرة من الإشارة أن هذه الخاطرة مستوحاة من محاضرة قصيرة تحمل عنوان «كيف نبني جامعة عالمية راقية؟» ألقاها مؤخرا د. تان جوان رئيس جامعة سنغافورة الوطنية (في جامعة كاليفورنيا بركلي) لإحراز جامعته المرتبة الأولى على المستوى الآسيوي والمرتبة 24 على المستوى العالمي وفقا لتصنيف تايمز للجامعات العالمية لسنة 2016-2017، واحتلت المرتبة 83 عالميا وفقا للتصنيف الأكاديمي لجامعات العالم.

تضمنت هذه المحاضرة القيّمة رغم قِصرِها العديد من الأفكار التي تبعث الأمل وتنشط العزم للارتقاء بالجامعات التي لا تتوافر لديها الإمكانات المادية لاستضافة أحد حملة جائزة نوبل للتدريس والبحث ضمن أحد أقسامها، والتي لا يمكنها استقطاب باحثي الدرجة الأولى الذين يتمتعون بغزارة في نتاجهم البحثي وجودة تتمثل بكثرة الإشارة (الاقتباس إلى بحوثهم).

وسيتبين لنا من خلال هذه السطور كيفية الاعتماد على الذات والسعي الدؤوب والمتواصل للرقي بالجامعة إلى أعلى الرُتب، لذا فإن الطموح الهادف إلى الارتقاء بأي مؤسسة تعليمية إلى أعلى المراتب، لا يتأتى إلا بالعمل المتواصل واللامحدود والهادف لتحقيق الرؤى الإستراتيجية لأصحاب القرار من القيادات العليا لتلك المؤسسات التعليمية، ومن ثم مقارنة المُنجز مع مُنجزات الجامعات الراقية. واستهل د. تان جوان حديثة بالتذكير بالإطار الذي وضعه البروفيسور المغربي جميل سالمي المتخصص باقتصاد التعليم في المعهد الوطني للتخطيط التربوي في الرباط-المغرب، وأحد منتسبي البنك الدولي...ألخ، فقد أصدر البروفيسور جميل سالمي في سنة 2009 كتابا بعنوان «التحدي لإنشاء الجامعات ذات المستوى العالمي»، وبيّن فيه السُبل المؤدية إلى الرُقي بالمؤسسة التعليمية للوصول إلى الجامعات ذات المستوى العالمي. ذكّر رئيس جامعة سنغافورة الوطنية الحضور بالعوامل التي ذكرها البروفيسور جميل سالمي والتي تساعد مجتمعة على إنشاء جامعة ذات مستوى عالمي، ألا وهي أولا التركيز العالي للمواهب متمثلا بهيئة تدريسية وطلبة موهوبين على حد سواء، فلا يمكن لجامعة ما أن تحول طلابها إلى مجيدين ما لم يكونوا مجيدين ومثابرين ضمن المرحلة الدراسية التي سبقت دراستهم الجامعية، كما أن وجود طلبة مجيدين بدون كادر تدريسي متميز بتدريسه وبحوثه لا يمكن أن يصنع من أغلب هؤلاء المجيدين مبتكرون وعلماء في تخصصاتهم. فالموهوبون المثابرون سواء أكانوا طلابا أو أساتذة يتميزون بالقدرة على طرح أفكار إبداعية تؤدي بالنتيجة إلى إنشاء حقول جديدة في مجال البحث العلمي، وهذه الأفكار قد تترجم إلى مُنتجات وسلع وخدمات جديدة للمجتمع، مما يسهل حياة المجتمع وينمي اقتصاده.
أما العامل الثاني المتمثل بوفرة الموارد لإنشاء بيئة تعليمية غنية، ولإجراء البحوث المتقدمة، وهذا العامل يستلزم التنوع في مصادر التمويل متمثلا باستيفاء أجور مجزية من الطلبة والتعاون مع القطاع الصناعي والتجاري من خلال الاستشارات، مما يستدعي دعم هذه القطاعات للمشاريع البحثية التي تخدم أغراضها، والحصول على دعم من الجهات الخيرية، وعدم الركون إلى دعم الدولة فقط لقطاع التعليم. ولا بد لنا من الإشارة أن هذا العامل مُترابط ومُتلازم مع العامل الذي سبقه والمُتمثل بالتركيز العالي للمواهب من هيئة تدريسية وطلاب.
أما العامل الثالث المهم فيتمثل بالحاكمية الإيجابية التي تُشجع على الرؤية الإستراتيجية والابتكار والمرونة والتي تُمكّن المؤسسات التعليمية من اتخاذ القرارات وإدارة الموارد بعيدا عن البيروقراطية. وأوضح أن الجامعة المتميزة يلزم أن تكون قادرة على توفير البيئة والبُنية الأساسية لدعم الأساتذة والطلبة للحصول على أفضل النتائج. ونوه إلى أن توفر الكادر التدريسي المتميز والطلبة اللامعين والمال الوفير يجب أن يصاحبه وجود قيادة جامعية متمكنة ذات رؤى إستراتيجية.
وبين د. تان جوان أنه لا يؤيد المطالبة باستقلالية الجامعات عن الدولة بشكل كامل، ولكنه من أنصار أن تُعطى الجامعات حرية اختيارها لاتجاهاتها ورسم إستراتيجياتها دون الحاجة إلى الاستقلالية المطلقة عن الدولة الساندة لها. وبين أن هذه العوامل مُجتمعة تساهم في استقطاب ألمع الأساتذة والطلبة إليها، وتؤدي بالنتيجة إلى رفد الجامعة للمجتمع بخريجين أكفاء وبحوث عالية الجودة تخدم المجتمع والاقتصاد. وشدد على أهمية الشبكات الرابطة للجامعات وأن تكون جامعته عُقدة (Node) مهمة ضمن هذه الشبكة، لتطوير عملية متابعة الإستراتيجيات. وبين ضرورة التعاون ما بين الجامعات، وأن تسعى الجامعات إلى أن تكون الجهة الجاذبة والمُفضلة لدى الجامعات الأخرى للشراكة معها، أي أن تكون الشريك المفضل. ولا يخفى علينا دور التميز والعلاقات الطويلة الأمد، والعمل الدؤوب مع الشركاء لكسب وتعزيز ثقة الآخرين، مما يؤدي إلى توافر سجل طويل من التعاون الناجح مع مختلف الجامعات في شتى بقاع المعمورة. وبين أن واحدة من أفضل أوجه التعاون تتلخص بالاتفاقية مع جامعة ديوك (Duke University) الأمريكية للتعاون في المجال الطبي من خلال إنشاء كلية طب جديدة في سنغافورة للدراسات العليا تحمل اسم كلية الطب ديوك-جامعة سنغافورة الوطنية (Duke-NUS medical school)، وتضمن الاتفاق أن تغدق حكومة سنغافورة على هذه الكلية الوليدة لمدة سبع سنوات بهدف جعل هذه الكلية المركز الرئيسي لتعلم الطب وللقيام بالأبحاث الطبية الخاصة بالأمراض المنتشرة في سنغافورة والدول الآسيوية المجاورة لسنغافورة، فخصوصية المنطقة والدولة والسكان يجب أن تأخذ بعين الاعتبار من قبل هذه الكلية. ويعود سبب هذا التمويل السخي إلى أن إنشاء هذه الكلية جاء ليُلبي الرؤى الإستراتيجية للحكومة، والتي لديها قناعة تامة أن الإنفاق على التعليم ما هو إلا استثمار. وتبنت هذه الكلية طريقة جديدة في التعلم تُعرف باسم الصف المعكوس (Flipped classroom) والتي أثمرت عن نتائج باهرة في التعلم. وبين أن الجامعة فكرت في كيفية انتقال الدولة إلى النموذج الاقتصادي العالمي والقائم على ريادة الأعمال وعلى تطوير الملكية الفكرية الخاصة بها لاستثمارهما، وبين أن طموح الجامعة تمثل في فتح فروع لها في دول مُتقدمة كالولايات المتحدة، وتم تبني فكرة الحاضنات لضمان دعم القطاع الصناعي لها.
لقد فكر القائمون على هذه الجامعة في كيفية بناء جامعة راقية في بلد صغير ومنافسة في مستواها لجامعات عريقة موجودة في دول عظمى، وكان الحل من خلال فتح فروع للجامعة في دول كالولايات المتحدة والصين، وبذلك تم تخطي صِغر البلد والعراقة والإمكانات بالتوجه نحو العالمية.

باحث ومتخصص بجودة
التعليم وتكنولوجيا المعلومات