مصير الأكراد

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٦/مارس/٢٠١٧ ٠٤:٠٧ ص
مصير الأكراد

برنارد هنري ليفي
عاش الأكراد تجارب لا حصر لها، وتحملوا عددا لا يُحصى من التقلبات في مصائرهم، وعانوا من الهيمنة مرارا وتكرارا. وعبر كل هذا ظلوا صامدين، فقاوموا القوى التي سعت إلى محوهم. واليوم، يقتربون من مَعلَم مهم على الطريق: إعلان تقرير المصير في هيئة دولة حرة تضمن لمواطنيها الحرية، والأمن، والكرامة.

تشكلت الأمة الكردية على مدى قرون بفِعل الآلام والكبرياء. فتعززت قوتها على مدار الحرب ضد الإرهابيين، حيث كان الأكراد رأس حربة العالَم المتحضر الأكثر تمسكا والمنفردة في بعض الأحيان.
فلا أعرف أيا من مقاتلي البشمركة لم تحدثه نفسه وهو يخوض حربنا المشتركة بتحقيق حلم الأجداد المتمثل في الاستقلال الكردي. فسوف تتحرر مدينة الموصل وسوف يندحر تنظيم داعش، وعندما تحين اللحظة المناسبة لعقد الاستفتاء الذي وصفه مسعود برزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان العراق، بأنه حق الأكراد غير القابل للمصادرة، فسوف تكون إرادة كل مواطن مشتركة بين الجميع.
يخشى حتى بعض أقرب حلفاء الأكراد أن يُفضي الاعتراف بدولة كردية إلى الإخلال بالتوازن الإقليمي وتهديد السلام. وفي اعتقادي أن العكس هو الصحيح: فسوف يكون الأكراد قطبا للاستقرار في المنطقة التي أصبحت عُرضة للتعصب والإرهاب على نحو متزايد.
وما يُنسَب إلى الأكراد من فضل أبدي هو أنهم دافعوا رغم كل الصِعاب عن المعايير التي تدعم الاستقرار والتي استهزأ بها الطغاة كاحترام الحدود، واحترام القانون، واحترام حقوق الإنسان الأساسية. وفي منطقة حيث يوجد آخرون الظروف التي تنتج اللاجئين، يقدم الأكراد الملاذ الآمن.
الواقع أن الأكراد ضربوا واحدا من الأمثلة القليلة في المنطقة للديمقراطية النشطة التي تُعلي قيمة التسامح، والتعايش الثقافي، وسيادة القانون. ففي أي جزء آخر من الشرق الأوسط قد يجد المرء مثل هذا الإيمان العميق بالنظام الجيوسياسي الذي يجنح إلى السِلم وليس الحرب، ويميل إلى المصالحة بدلا من إحياء الأحقاد القديمة، ويفضل احترام الآخر على حرب الحضارات.
إن صِغَر حجم الدولة الكردية لن يجعلها هشة أو ضعيفة. ويقدم لنا التاريخ العديد من الأمثلة لدول صغيرة تتسم بالصلابة والقوة لأن شعبها موحد في مواجهة جيران أقوياء. فكان السيف دوما قريبا من المحراث عندما يحين وقت الدفاع عن الأمة. ومن السمات الحاسمة التي تتميز بها مثل هذه الأمم أنها تتألف من مواطنين يوحدهم تاريخهم المشترك وروحهم المشتركة، وليس العِرق، أو الشعور بالتفوق، أو هوية انعزالية تفتقر إلى الثقة.
والأكراد أمة من هذا القبيل: شعب من المتطوعين الذين يعرفون لماذا يقاتلون، شعب لا يتردد أبناؤه، من أكثرهم تواضعا إلى أكثرهم عظمة، من جنود البشمرجة العاديين إلى أعلى القادة الأكراد، في حمل السلاح لتثبيط أو تفكيك الاستبداد وليس فقط بالنيابة عن أنفسهم. فقد بادروا إلى حماية المسيحيين من التطهير من آخر مكان على الأرض حيث لا يزال الناس يتحدثون لغة المسيح، في حين دافعوا عن مبادئ المساواة بين الجنسين، حتى في القتال وهو المبدأ الذي يُعَد سِمة للحضارات العظيمة.
لهذه الأسباب، أعتقد أن ميلاد دولة قومية كردية سيكون قوة من أجل السلام، وليس الفوضى، في الشرق الأوسط وهو التطور الذي من شأنه أن يساعد في طرد مَرَدة التطرف العنيف، والطغيان، والتفكك. وكمثل واحدة من أعظم أمم العالم -وإن كان أولئك الذين يدعون أنهم قادتها اليوم يحطون من قدرها- سوف يكون الشعب الكردي بمثابة «المدينة المتألقة أعلى التلة»، النجم الهادي للشعب الكردي المشتت ومصدر الأمل لكل المحرومين والمشردين في العالم.
وعلى هذا، لا ينبغي للأكراد أن يخافوا الإعلان عن روحهم، التي تتسم بالعالمية، والأممية الحقة، إن كان لمثل هذه الكلمات أي معنى على الإطلاق.
وتجسد الأصوات من كردستان هذا. فالشيء الذي لفت انتباهي على مدار زياراتي المتكررة لكردستان هو أن الأكراد شعب متعدد اللغات. فبالإضافة إلى اللغة الكردية، يتكلمون لغات اكتسبوها في المنفى. وكمثل الأمة الفرنسية، التي اكتسبت ثراءها على مر القرون عن طريق المهاجرين والمضطهدين، يتسم الأكراد بالتنوع في الأصل والعالمية في الأفق. وكان توفيرهم الملاذ للمجتمعات اليزيدية والمسيحية المضطهدة دليلا إضافيا على هذا.
يُنكِر الشعبويون في الغرب اليوم هذا، ولكن «الأممية» فكرة جميلة. فعلى مدار قرنين من الزمن، كانت هذه الفكرة الروح الموحية للعديد من المعارك من أجل الحرية، وألهمت قدرا عظيما من الشجاعة والمقاومة والتضحية والنبالة. ورغم الفخاخ التي انزلقت إليها في بعض الأحيان، فقد غذت الأممية أفضل ما مثله «الغرب».
تتمثل إحدى سمات كردستان في إبقائها على شعلة الأممية مضيئة في منطقة غارقة في الظلام. ولنتأمل هنا معركة الأكراد ضد تنظيم داعش، التي خاضوها ليس فقط من أجل أنفسهم وسلامتهم، بل وأيضا نيابة عن بقية العالم. فقد تصرف الأكراد كأمميين، في حين كانوا أمميين بالقلب والروح أيضا.
يتوقع المرء أن يُعادي جيران الدولة الكردية الجديدة الأقوياء مثالها. ففي مختلف أنحاء الشرق الأوسط، سوف تكون كردستان الحرة توبيخا حيا للأمم الزائفة، والأمم الأشبه بالسجون، التي يظل الأكراد، بين آخرين، حبيسين داخلها.
وفي مواجهة الاختبارات والتحديات الجديدة التي تنتظرهم، يتعين على الشعب الكردي أن يدرك أنه من المرجح أن يجد نفسه وحيدا كأي وقت مضى في تاريخه الطويل. ذات يوم، قال شارل ديجول إن الشعوب ليس لها أصدقاء، ومن المؤسف أن الأكراد سوف يكتشفون قريبا بما فيه الكفاية أن أصدقاء اليوم ربما يفضلون نظامهم العالمي المفترض على الصداقة والعدالة وقضية الاستقرار والسلام الحقيقيين.
الواقع أن الأكراد يعدون أنفسهم لهذا. وما يدعو إلى التفاؤل أن الملايين من الرجال والنساء في الخارج، في فرنسا ومختلف أنحاء العالم، آمنوا بكردستان عندما لم تكن الحكومات راغبة في إقامة أية علاقات معها. وهذا النوع من الصداقة -الدعم الذي يقدمه الكثير من مواطني العالم- أكثر ثباتا. ولن يُخفِق أصدقاء من هذا القبيل أبدا.

أحد مؤسسي حركة «فلاسفة جدد»