هل توفيت النزعة الدولية الليبرالية؟

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٢/مارس/٢٠١٧ ٠٤:٣٣ ص

توني سميث

يصادف هذا الشهر مرور مئة عام على الموقف العصيب المؤلم الذي وجد الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون نفسه فيه عندما كان لزاما عليه أن يقرر ما إذا كان على الولايات المتحدة أن تدخل الحرب العالمية الأولى أو تمتنع عن دخولها. وقبل ذلك ببضعة أشهر، كان ويلسون أعيد انتخابه جزئياً بفضل حملته الانتخابية التي قامت على سياسة الحياد، التي أصبح في ذلك الحين على استعداد للتخلي عنها، جنبا إلى جنب مع شعار «أمريكا أولا». ولكن الآن، وللمرة الأولى في أكثر من ثمانين عاما، يرفع رئيس الولايات المتحدة هذا الشعار مرة أخرى، للترويج لموقف في السياسة الخارجية يتناقض تمام التناقض مع المبدأ الذي اعتنقه ويلسون.

في العام 1919، دافع ويلسون بعد أن وضعت الحرب أوزارها عن رؤيته للسياسة الخارجية، والتي تمثلت في «الدولانية الليبرالية»: دعم الأمن الجماعي والترويج للأسواق المفتوحة بين الديمقراطيات، على أن تُدار بالاستعانة بنظام يقوم على المؤسسات المتعددة الجنسيات والتي تعتمد في نهاية المطاف على الولايات المتحدة. ورغم أن مجلس الشيوخ الأمريكي رفض في مستهل الأمر رؤية ويلسون، وخاصة دعمه لفكرة الانضمام إلى عُصبة الأمم، فقد أحيا فرانكلين روزفلت النزعة الدولية الليبرالية بعد العام 1933. وقد ساعد ذلك في تشكيل السياسات الخارجية التي انتهجها أغلب رؤساء الولايات المتحدة منذ ذلك الحين إلى أن وصل ترامب.
يتألف نهج «أمريكا أولا» الذي يدعو إليه ترامب من ازدراء منظمة حلف شمال الأطلسي، واحتقار الاتحاد الأوروبي، والسخرية من الدور القيادي الذي تلعبه ألمانيا في أوروبا. كما يشمل هذا النهج رفض الانفتاح الاقتصادي، والذي انعكس في انسحاب ترامب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي والدعوة إلى إعادة التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية. كما تعهد ترامب بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ. ويبدو أن ترامب، على النقيض من ويلسون، لا يرى أي قيمة في الحفاظ على العلاقات المتزايدة العمق مع الديمقراطيات الأخرى. بل يبدو بدلا من ذلك منجذبا إلى الزعماء المستبدين -وخاصة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين- وهو غالبا يترك الزعماء الديمقراطيين يراقبون من الجناحين.
من المؤكد أن ويلسون كان ليتفق مع ترامب حول بعض القضايا لو كان على قيد الحياة اليوم، وإن كانت حلوله المقترحة لتأتي مختلفة تمام الاختلاف. على سبيل المثال، ربما كان ويلسون ليتفق مع ترامب على أن مستوى الانفتاح في الأسواق العالمية اليوم مفرط. وإنها لمشكلة معقدة حقا أن يُسمِح للبنوك والشركات الأمريكية بتصدير رأس المال والتكنولوجيا والوظائف كيفما تشاء، بلا أي اعتبار تقريبا للتكاليف المحلية. غير أن حلول ويلسون كانت لتركز في الأرجح على تطوير وتنفيذ قواعد تنظيمية محسنة من خلال عملية متعددة الأطراف تهيمن عليها الديمقراطيات. وعلى نحو مماثل، كان ليدعو في أغلب الظن إلى سياسة مالية تهدف إلى تعزيز الصالح العام، مع فرض ضرائب أعلى على الشركات والأسر الأكثر ثراء والتي تمول على سبيل المثال تطوير البنية الأساسية، والتعليم العالي الجودة، والرعاية الصحية الشاملة.
باختصار، كان ويلسون ليؤيد برنامجا أشبه بذلك الذي تقترحه عضو مجلس الشيوخ الأمريكي من الحزب الديمقراطي إليزابيث وارين أو الاقتصادي جوزيف ستيجليتز الحائز على جائزة نوبل، والذي يضمن نظاما متقدما للرعاية الاجتماعية يعمل على تمكين الرخاء الواسع النطاق. وفي المقابل، يدعو ترامب إلى خفض الضرائب على الأثرياء، ويبدو على استعداد لاحتضان شكل ما من أشكال رأسمالية الدولة -إن لم يكن رأسمالية المحسوبية- عبر سياسات الحماية وتقديم حوافز خاصة للشركات لتشجيعها على التصنيع في الولايات المتحدة.
ربما يتفق ويلسون مع ترامب على نقطة أخرى: فنحن لا نستطيع أن نفترض أن الديمقراطية قيمة عالمية تتمتع بجاذبية عالمية. ومثله كمثل ترامب، كان ويلسون ليتجنب صيغ بناء الأمة والدولة المثالية التي حركت السياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيسين جورج دبليو بوش وباراك أوباما.
ولكن هنا أيضا، تطغى الاختلافات على أوجه التشابه. فقد قرر ترامب أن الولايات المتحدة لا ينبغي لها ببساطة أن تكلف نفسها عناء التفكير في بقية العالم، ما لم تحصل على شيء ملموس في المقابل. وعلى النقيض من هذا، كان ويلسون راغبا في نشر الديمقراطية من أجل السلام العالمي، ولكن بطريقة غير مباشرة، بالعمل من خلال عصبة الأمم. وكان يعتقد أن المؤسسات الدولية، وسيادة القانون، والقيم المشتركة، والنخبة التي تتمتع برؤية ديمقراطية من الممكن أن تضمن الأمن الجماعي والحلول السلمية للنزاعات. وكان يعتقد أن ما ينشأ بوصفه «باكس أمريكانا» (السلام الأمريكي) من شأنه أن يتحول في نهاية المطاف إلى «باكس ديموكراتيكا» (السلام الديمقراطي).
تكمن هذه الرؤية في صميم «الاستثنائية» الأمريكية. ولا أزعم ببساطة أن الولايات المتحدة، على حد تعبير بِل كلينتون، «الأمة التي لا غنى عنها»، والتي تجعلها قوتها العالمية طرفا في كل القضايا الدولية الكبرى. فالولايات المتحدة من الممكن أن تتوقع أيضا الاحترام من الدول الأخرى، لأنها تنظر إلى ما هو أبعد من مصالحها الشخصية الضيقة للحفاظ على النظام الدولي الذي يدعم السلام، والتعاون، والرخاء، وخاصة بين ديمقراطيات العالَم.
ولكن لم يتبع كل رئيس أمريكي خُطى ويلسون. فقد سُحِقَ وعد الدولانية الليبرالية على مدار ثلاث إدارات رئاسية، منذ انتخاب وارين هاردنج في العام 1920 وحتى تولى رزفلت الرئاسة في العام 1933. وفي عهد ترامب يُسحَق وعد الدولانية الليبرالية مرة أخرى. فقد أعلن ترامب عند تنصيبه: «من هذا اليوم فصاعدا، سوف تكون أمريكا أولا فقط». بيد أن سَحق رؤية ويلسون قد لا يكون بهذه السهولة. في عشرينيات القرن العشرين، دَفَعَت أزمة الكساد العظيم والحرب العالمية الثانية والحرب الباردة صناع السياسات في الولايات المتحدة إلى احتضان الدولانية الليبرالية. واليوم أيضا، من المرجح أن يثبت العالَم المضطرب الصاخب مدى الاحتياج العميق والدائم إلى الدولانية الليبرالية.

أستاذ العلوم السياسية الفخري في جامعة تافتس وأحدث مؤلفاته كتاب «ما السبب وراء أهمية ويلسون:

أصول الدولانية الليبرالية الأمريكية وأزمتها اليوم»