عن أي نظام عالمي ليبرالي تتحدث؟

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٢/مارس/٢٠١٧ ٠٤:٣٢ ص
عن أي نظام عالمي ليبرالي تتحدث؟

مارك ليونارد

بعد انقضاء العام الرهيب 2016، يعتقد أغلب المراقبين السياسيين أن النظام العالمي الليبرالي يمر بورطة خطيرة. ولكن هنا ينتهي الاتفاق. ففي مؤتمر ميونيخ للأمن مؤخرا، أظهرت المناقشة حول هذا الموضوع بين قادة مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ونائب الرئيس الأمريكي مايك سبنس، ووزير الخارجية الصيني وانج يي، ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، الافتقار إلى الإجماع حتى على تعريف النظام الليبرالي. وهذا يجعل من الصعب أن نجزم بما قد يحدث له.

عندما هيمن الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، على العالَم، كان النظام الليبرالي هو ما ينبئنا عنه الغرب أيا كان. وقد اشتكت دول أخرى وعَرَضَت اقتراحات بديلة، ولكنها سايرت القواعد التي وضعها الغرب.
ولكن بعد تحول القوة العالمية من الغرب إلى «بقية» العالَم، أصبح النظام العالمي الليبرالي فكرة متنازعا عليها على نحو متزايد، مع تحدي قوى صاعدة مثل روسيا والصين والهند للمنظور الغربي على نحو متزايد. والواقع أن انتقاد ميركل في ميونيخ لروسيا، بسبب غزوها لشبه جزيرة القرم ودعم الرئيس السوري بشار الأسد، قوبِل بتأكيدات من جانب لافروف على أن الغرب تجاهل قاعدة السيادة في القانون الدولي بغزو العراق والاعتراف باستقلال كوسوفو.
وهذا لا يعني أن النظام العالمي الليبرالي مفهوم تام الغموض. فقد نشأت النسخة الأولى -التي يمكننا أن نسميها «النظام الليبرالي 1.0»- من رماد الحرب العالمية الثانية لتعزيز السلام ودعم الرخاء العالمي. وكان مدعوما من قِبَل مؤسسات مثل البنك الدولي للإنشاء والتعمير، الذي أصبح فيما بعد البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، فضلا عن الترتيبات الأمنية الإقليمية مثل منظمة حلف شمال الأطلسي. وقد أَكَّد على التعددية، بما في ذلك من خلال الأمم المتحدة، والترويج للتجارة الحرة.
لكن النظام الليبرالي 1.0 كان محدودا بفِعل الحدود السياسية على وجه الدقة. ونظرا للصراع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، فلم يكن من الممكن حتى وصفه بأنه «نظام عالمي». فكان ما تقوم به أي دولة في الداخل شأنا خاصا في الأساس، ما دام لم يؤثر على التنافس بين القوى العظمى.
ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ذهب الغرب المنتصر إلى توسيع مفهوم النظام العالمي الليبرالي. وكانت النتيجة اختراق «النظام الليبرالي 2.0» لحدود الدول للنظر في حقوق أولئك الذين يعيشون هناك.
وبدلا من التمسك بالسيادة الوطنية بأي ثمن، سعى النظام الموسع إلى تجميع السيادة وإقامة قواعد مشتركة يتعين على الحكومات الوطنية أن تلتزم بها. وعلى أكثر من نحو، سعى النظام الليبرالي 2.0 المدعوم من قِبَل مؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية والمحكمة الجنائية الدولية، فضلا عن قواعد جديدة مثل المسؤولية عن الحماية إلى تشكيل العالم على هيئة الغرب.
ولكن قبل أن تمر فترة طويلة، أعاقت القوى المهووسة بالسيادة مثل روسيا والصين تنفيذه. وعملت الأخطاء الكارثية التي ارتكبها صناع السياسات في الغرب -على وجه التحديد الحرب المطولة في العراق والأزمة الاقتصادية العالمية- على تعزيز إسقاط النظام الليبرالي 2.0.
ولكن الآن يرفض الغرب ذاته النظام الذي أوجده، وغالبا باستخدام نفس منطق السيادة الذي استخدمته القوى الصاعدة. وليست الإضافات الأكثر حداثة مثل المحكمة الجنائية الدولية والمسؤولية عن الحماية فقط التي أصبحت عُرضة للخطر. فبعد رفض المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي وإدانة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لاتفاقيات التجارة الحرة واتفاق باريس للمناخ، يبدو أن النظام الليبرالي 1.0 الأكثر جوهرية أصبح تحت التهديد.
يزعم بعض المراقبين أن الغرب بالَغ في إيجاد النظام الليبرالي 2.0. ولكن حتى أمريكا في عهد ترامب لا تزال في احتياج إلى النظام الليبرالي 1.0 والتعددية التي يقوم عليها. وإلا فإنه ربما يواجه نوعا جديدا من العولمة التي تجمع بين تكنولوجيات المستقبل وعداوات الماضي.
في مثل هذا السيناريو، سوف تستمر التدخلات العسكرية، ولكن ليس في هيئة ما بعد الحداثة التي كانت تهدف إلى دعم النظام (الذي تجسد في معارضة القوى الغربية للإبادة الجماعية في كوسوفو وسيراليون). وبدلا من ذلك، سوف تكون الغَلَبة للأشكال الحديثة وما قبل الحديثة أو دعم القمع الحكومي، كما فعلت روسيا في سوريا، أو حروب الوكالة العِرقية الدينية كتلك التي تشنها المملكة العربية السعودية وإيران في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
وفي الصراعات الجديدة، سوف يجري تحويل الإنترنت، والهجرة، والتجارة، وإنفاذ القانون الدولي، إلى أسلحة، بدلا من توظيف القواعد العالمية في حُكم كل هذه القوى بفعالية. وسوف يكون الصراع الدولي مدفوعا في المقام الأول بسياسة محلية تتحدد معالمها على نحو متزايد وفقا للمخاوف وانعدام الثقة في المؤسسات، والنزعة القومية التي تتسم بضيق الأفق.
الواقع أن الدول الأوروبية ليست على يقين من كيفية الاستجابة لهذه الفوضى العالمية الجديدة. وقد ظهرت ثلاث استراتيجيات محتملة للمواجهة.
تتطلب الاستراتيجية الأولى تَقَدُّم دولة مثل ألمانيا، التي تعتبر نفسها صاحبة مصلحة مسؤولة وتتمتع ببعض الثِقَل الدولي، للاضطلاع بمسؤولية القَيِّم الرئيسي على النظام الليبرالي العالمي. وفي هذا السيناريو، تعمل ألمانيا على دعم النظام الليبرالي 1.0 على مستوى العالم والإبقاء على النظام الليبرالي 2.0 داخل حدود أوروبا.
وبوسعنا أن نسمي استراتيجية ثانية، والتي تجسدها اليوم تركيا بقيادة الرئيس رجب طيب أردوجان، استراتيجية تعظيم الربح. لا تحاول تركيا قلب النظام القائم، ولكنها تفتقر إلى حس المسؤولية عن صيانته أيضا. وبدلا من هذا، تسعى تركيا إلى استخلاص أكبر قدر ممكن من المنفعة من المؤسسات التي يقودها الغرب مثل الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي، في حين تعمل على تعزيز علاقات المنفعة المتبادلة مع دول مثل روسيا وإيران والصين، والتي تسعى غالبا إلى تقويض تلك المؤسسات.
أما الاستراتيجية الثالثة فهي النفاق البسيط: فسوف تتحدث أوروبا وكأنها شريك مسؤول، ولكنها تتصرف على النحو الذي يعظم أرباحها. وهذا هو المسار الذي سلكته رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي عندما التقت ترامب في واشنطن العاصمة. فقد ألقت كل التصريحات الصحيحة حول منظمة حلف شمال الأطلسي، والاتحاد الأوروبي، والتجارة الحرة، ولكنها دافعت عن صفقة خاسرة مع الولايات المتحدة خارج هذه الأطر.
في الأشهر المقبلة، سوف يضطر العديد من القادة إلى الرهان على ما إذا كان النظام الليبرالي قادرا على البقاء وما إذا كان ينبغي لهم أن يستثمروا الموارد في جلب هذه النتيجة. يتمتع الغرب كجماعة بالقوة اللازمة لدعم النظام الليبرالي 1.0. ولكن إذا عجزت القوى الغربية عن الاتفاق على ما تريده من هذا النظام، أو المسؤوليات التي يتعين عليها أن تضطلع بها، فمن غير المرجح حتى أن تحاول.

مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية