فهمى هويدى
ليست المشكلة الآن فيمن يقود العالم العربى، وإنما فى مصير ذلك العالم الذى أصبح فى مهب الريح.
(١)
فى كلمة ألقاها سفير دولة الإمارات العربية فى واشنطن أمام مؤتمر جامعة الدفاع الوطنى التابعة لوزارة الدفاع قال ما يلى: إن دولة الإمارات هى التى تقود المنطقة العربية بمبادراتها ومشاركتها فى ستة تحالفات مع الولايات المتحدة. أضاف السفير يوسف العتيبة إن بلاده هى الوحيدة التى شاركت ومازالت شريكة للولايات المتحدة فى كل العمليات العسكرية خلال الـ٢٥ عاما الأخيرة، سواء فى أفغانستان أو العراق أو سوريا. وطبقا لما نشرته صحيفة «القدس العربى» فى ١٠/١ فإن السفير أشار إلى أن فى بلاده قاعدة عسكرية أمريكية كبيرة بها ٣٠٠٠ جندى، كما أن جميع العمليات التى تقوم بها السفن الحربية الأمريكية بالمنطقة تنطلق من ميناء جبل على. تحدث أيضا عن قيام دولة الإمارات بدور مهم فى نشر الإسلام المعتدل من خلال مجلس حكماء المسلمين الذى ترعاه، ويضم علماء متنورين يؤمنون بالفكر الوسطى وليس المتطرف. كما تحدث عن التنسيق القائم بين الإمارات والولايات المتحدة لمواجهة الأفكار المتطرفة من خلال المشاركة معا فى مركز «صواب» المتخصص فى النهوض بهذه المهمة من خلال شبكات التواصل الاجتماعى.
بشكل مواز كتب الباحث الأكاديمى الإماراتى الدكتور عبدالخالق عبدالله على صفحته فى ١١/١ قائلا إن السعودية هى اليوم مركز الثقل السياسى العربى والإسلامى، باعتراف الأصدقاء والأعداء، وفى تعليق له نشره فى الأسبوع الفائت ذكر أن دبى وأبوظبى والشارقة وبقية المدن الخليجية، وليس بيروت والقاهرة وبغداد هى التى تقود حركة التنوير والحداثة بالمنطقة العربية فى القرن الواحد والعشرين، ثم قال فى وقت لاحق إن البعض يلوموننا حين نكرر أن الإمارات هى اليوم الدولة القدوة فى العالم العربى، وأن هذه لحظة الخليج فى التاريخ العربى المعاصر، وهذه الفكرة الأخيرة عبر عنها السياسى الكويتى المخضرم السفير عبدالله بشارة (الأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجى) حين نقل عنه قوله إن القرار العربى انتقل من دول الماء إلى دول النفط.
(٢)
مصر لها نصيبها من هذه الرؤية المستجدة لخرائط المنطقة. عبر عن ذلك أحد الكتاب والأكاديميين السعوديين البارزين، الدكتور خالد الدخيل أستاذ العلوم السياسية. فى مقالة له نشرتها صحيفة الحياة اللندنية فى ٢٩/١١/٢٠١٥، ففى حديثه عن أجواء العلاقات المصرية السعودية ذكر أن معضلة العلاقة فى الظروف الإقليمية الراهنة تكمن فى أن النخبة المصرية المثقفة «تريد أن تستعيد مصر دورها القيادى فى الإقليم كما كان عليه فى النصف الأول من القرن الفائت (و) يعبر الموقف الرسمى المصرى عن الأزمات التى تعصف بالمنطقة عن الرؤية ذاتها، لكن غموض ذلك الموقف يعبر عن إحباط ناتج كما يبدو من إدراك متمكن بأن إمكانية استعادة هذا الدور القيادى لم تعد متاحة كما كانت عليه من قبل، فمصر فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى وقبله عهد محمد مرسى القصير لم تعد مصر فى العهد الملكى ولا مصر فى عهد عبدالناصر. والعالم العربى الآن يبتعد كثيرا عن العالم العربى كما كان عليه فى أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. أصبح من الواضح أن استعادة مصر دورها القيادى تتطلب تغييرا فى مصر قبل أى مكان آخر، يضعها فى مقدم المنطقة كما كانت عليه من قبل. أضاف أنه لا أحد يعترض على استعادة مصر دورها، لكن السياسة والأدوار القيادية فيها لا تتحقق بالأمانى والتعلق بأحلام تعود لماض بعيد. لم تعد مصر فى مقدم المنطقة لا فى الاقتصاد ولا فى السياسة، ولا حتى فى التنمية والعلم. عصر عمالقة مصر بالمعايير المصرية انتهى. باتت الدولة فى مصر تعانى مما تعانيه دول عربية كثيرة، تعترف بأن التغيير أصاب مجتمعها كما أصاب المنطقة والعالم. لكنها تنتظر من هذا التغيير أن يتأقلم معها لا أن تتأقلم هى معه ومع مقتضياته.
تحدث الدكتور الدخيل عن أنه بعد انهيار سوريا والعراق لا يمكن إنقاذ المنطقة إلا بتعاون مع السعودية، وذلك يتطلب رؤية مشتركة مع مصر للحلول والمخارج، إلا أن مصر فى وضعها الاقتصادى والسياسى الصعب تخشى فيما يبدو أن يكون التوصل إلى رؤية مشتركة مع الرياض فى صالح اعتراف إقليمى بتبلور قيادة سعودية للمنطقة على حسابها. وعلق على ذلك قائلا إن مصر «تريد المساعدات المالية السعودية والخليجية، لكنها لا تريد أن يكون لهذا ثمن عليها أن تدفعه ضمن معادلة المصالح العربية المتبادلة».
(٣)
هذا الكلام ليس مجرد آراء شخصية أو اجتهادات لنفر من مثقفى الخليج، ولكنه يعبر عن رؤية تبلورت خلال السنوات الأخيرة وعكست بعض جوانب الخرائط التى استجدت فى العالم العربى فى ضوء الحقيقة التى لا مفر من الاعتراف بها. وهى أن مصر صغرت والآخرين كبروا. أضع بين قوسين المبالغات والشطحات التى وردت فى بعض التعليقات، خصوصا تلك التى ألغت أدوار بيروت والقاهرة وبغداد لصالح دبى وأبوظبى والشارقة وقيادة الأخيرين للتنوير والحداثة فى القرن الواحد والعشرين. فيما عدا ذلك لا يخلو من صواب ذلك الحديث عن انتقال مركز القرار العربى إلى دول النفط (رغم انخفاض أسعاره)، كذلك لا يخلو من منطق تحليل الدكتور الدخيل.
فى كتابات فائتة أشرت أكثر من مرة إلى أن قيادة العالم العربى ليست وقفا ولا حكرا على بلد دون آخر، لكنها مسئولية لها شروطها، من استطاع أن ينهض بها فهو جدير بها، لذلك فإن السؤال الصحيح ليس من يقود ولكنه فى معايير تبوُّء مقعد القيادة والقدرة على الوفاء باستحقاقاتها من وجهة نظر المصالح العربية العليا. وما عاد سرا أن مصر تخلت عن القيادة السياسية للعالم العربى. بعد رحيل الرئيس جمال عبدالناصر وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل فى عام ١٩٧٩. إذ منذ ذلك الحين ظل مقعد القيادة شاغرا، رغم محاولات ملئه من جانب الرئيس العراقى صدام حسين تارة والعقيد معمر القذافى تارة أخرى. وحين توالت الانهيارات فى المشرق بوجه أخص فى ظل الفراغ المخيم برز دور دول الخليج التى امتلكت من القدرة الاقتصادية ما لم يتوافر لغيرها من دول الإقليم. وبقوتها تلك فإنها تصدرت المشهد وتعاظم دورها السياسى بصورة نسبية، وأصبحت صاحبة القرار فى الجامعة العربية على الأقل، إلا أن ذلك تم فى ظروف بالغة التعقيد، أزعم أنها الأسوأ فى التاريخ العربى المعاصر، صحيح أن تراجع أسعار النفط حد من القدرة المالية لتلك الدول، إلا أنها لاتزال تؤدى دورها النسبى فى توجيه القرار العربى، لأن أوضاع بقية الدول العربية الأخرى أكثر ضعفا. الظروف المعقدة التى أعنيها تتمثل فيما يلى:
< إن دول الخليج تعانى خللا خطيرا فى تركيبتها السكانية يؤثر على استقرارها فى الأجل البعيد، إذ حسب تقديرات المركز الإحصائى لدول مجلس التعاون الخليحى الست فإنها تضم نحو ٤٩ مليون نسمة (فى عام ٢٠١٣) إلا أن العمالة الآسيوية تمثل ١٦ مليون نسمة فى الوقت الراهن ويقدر لها أن تصل إلى ٣٠ مليونا فى عام ٢٠٢٥. وطبقا لتقديرات الباحث الإماراتى الدكتور حسين غباش فإن نسبة العمالة الأجنبية تصل إلى ٩٠٪ فى دولة الإمارات و٨٥٪ فى قطر فى حين تتراوح بين ٣٠ و٦٠٪ فى بقية الدول.
< إن دولة وهى تتصدر المشهد العربى وتمسك بزمام القرار العربى تعانى من الخوف والقلق من محيطها الخارجى خصوصا بعد التدخل الإيرانى فى اليمن. ورغم أن دوله تتصدر قائمة الدول الأكثر إنفاقا على التسليح، حتى إن الإمارات تعد واحدة من أعلى خمس دول فى العالم تشترى السلاح، إلا أنها تعتمد اعتمادا شبه كلى على الحماية الأجنبية. لذلك فإن القواعد العسكرية الأجنبية منتشرة فى كل دولها بغير استثناء. ولم يعد الأمر مقصورا على الأمريكيين والإنجليز والفرنسيين، وإنما اصطف إلى جانبهم الأستراليون والقادمون من كوريا الجنوبية. وقد التحقت تركيا بالقائمة مؤخرا، حين أقامت لها قاعدة عسكرية فى قطر.
< إن مستقبل العالم العربى أصبح يتقرر خارج حدوده. واللاعبون الكبار فى الإقليم أصبحوا محصورين فى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى وروسيا وإيران وتركيا. وذلك واضح تماما فى الملف السورى الذى تتولاه تلك الدول ولروسيا فيه كلمة مسموعة بحكم وجودها على الأرض فى سوريا. ومن الواضح أن القرار العربى لا تأثير له على الملف السورى، فضلا عن أنه لم يحل شيئا فىمشكلتى ليبيا واليمن.
< إن حالة الهشاشة التى يعانى منها العالم العربى جعلته أكثر قابلية للتشرذم والانفراط، على نحو جعل احتواءه ومحاولة رأب تصدعاته عملية بالغة الصعوبة الأمر الذى يلغى دور أى قيادة عربية، وقد رأينا بوادر التقسيم فى العراق سواء بين السنة والشيعة فضلا عن دعوة مسعود البرزانى رئيس إقليم كردستان إلى الاستفتاء على الاستقلال. كما أن خرائط تقسيم سوريا وإقامة دولة علوية تبدو تحت الإعداد. ولا يعرف مصير أقاليم ليبيا كما أن ملف دارفور لم يغلق بعد فى السودان. وهذه الهشاشة أطلقت يد إسرائيل فى الأراضى الفلسطينية المحتلة ففرضت حصارها على رام الله والبيرة وقباطية، إلى جانب حصارها التقليدى لقطاع غزة فضلا عن استمرار محاولاتها اقتحام المسجد الأقصى.(٤)
إذ تحل هذا العام الذكرى المئوية لتقسيم العالم العربى طبقا لاتفاقية سايكس بيكو التى وقعت عام ١٩١٦، بعد الحرب العالمية الأولى، فإن المئوية الجديدة تنبئ بما هو أسوأ. ذلك أن الاتفاقية وقعت بعد انهيار الدولة العثمانية التى وصفت بأنها رجل أوروبا المريض، وهو وضع قريب الشبه بانهيار النظام العربى وتراجع دور مصر التى صارت رجل العرب المريض. وكما انكسرت راية الدولة العثمانية آنذاك، فإن الإرادة العربية انكسرت بدورها بعد خروج مصر على الإجماع العربى فى معاهدة السلام مع إسرائيل، وبعد تعرضها للهزات السياسية والاقتصادية. وذلك الانكسار فتح الباب واسعا لمختلف التصدعات التى فتحت شهية كثيرين للحديث عن إعادة تقسيم العالم العربى ورسم خرائط جديدة له، وقد أشرت توا إلى حظوظ العراق وسوريا والسودان منها، كما أن مشروع دولة الخلافة (داعش) يبدو ضمن تجلياتها.
ثمة ملاحظتان أساسيتان تردان فى هذا الصدد. الأولى أن العالم العربى فى ظل الخرائط الجديدة لم يعد مهددا فى حدوده فحسب، وإنما فى وجوده أيضا. وذلك حاصل فى الوقت الراهن دون غزو من الخارج، وبفعل عوامل داخلية فى الأغلب. الملاحظة الثانية أن موازين القوى المحيطة تغيرت هذه المرة. فلئن كانت إنجلترا وفرنسا وراء اتفاقية سايكس بيكو قبل مائة عام، فإن رعاة القسمة هذه المرة تضاعفوا، وانضمت إليهم الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل. ولذلك حديث موجع آخر أستكمله فى الأسبوع المقبل بإذن الله.
كاتب ومفكر مصري