واقعية الخطاب الاقتصادي العربي

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٨/مارس/٢٠١٧ ٠٤:١٥ ص
واقعية الخطاب الاقتصادي العربي

محمد محفوظ العارضي

واقعية الخطاب أي كان مجاله هو من واقعية الثقافة، وراهنية الخطاب أيضاً من راهنية الوعي بالمتغيرات والقدرة على تحديد قواها الاجتماعية وأدواتها. خطابنا الاقتصادي العربي يحتاج إلى تحديث لاستيعاب المتغيرات الاقتصادية العميقة التي حدثت بعد أزمة 2008، إذا لا يعقل أن يواصل الخطاب العربي تمجيد مرحلة اقتصادية انتهت بفعل أزمة أنتجت ثقافة أخرى أكثر عدلاً يتبناها الخطاب الغربي ذاته، أو أن نبقى في حالة دفاع عن العولمة بعد أن بدأت المراكز التي كانت مستفيدة منها، تنتقدها وتطالب بتغييرها بما يتوافق مع المصالح العامة للبشر وليس مصالح النخبة فقط.

إحدى معضلات الخطاب الاقتصادي العربي أنه كان ترجمة عن خطابات الآخرين، ونقلاً حرفياً لثقافة اقتصادية نمت وتعززت في بيئة مختلفة عن بيئتنا، كان دورها تلبية متطلبات تجربة خاصة بغيرنا وليس بنا نحن. فهل نحتاج إلى ترجمة خطاب يتناول واقعاً مختلفاً عن واقعنا؟ أم أن حجر أساس التغيير والتطوير هو إنتاج خطاب ثقافي يعكس تجربتنا الخاصة ويتناول حالة الاقتصاد والمجتمع العالميين وفق رؤيتنا من المكان الذي نقف فيه؟
إن رؤيتنا العربية لمتطلبات نمو اقتصاداتنا يجب أن تأتي مختلفة عن رؤية غيرنا من الشعوب والأمم، وليس المقصود هنا الاختلاف بهدف الاختلاف فقط، بل الحفاظ على واقعية الرؤية التي تعكس واقعية الحالة الخاصة بنا وشروطها ومتطلباتها التي تتوافق مع إمكاناتنا وتحقق سيادتنا التنموية. من الطبيعي أن تتباين الرؤى بين الأمم والثقافات، فكل يرى المشهد من زاويته، من يقف على قمة الجبل يرى مشهداً مختلفاً عما يراه من في القاع أو في وسط المسافة إلى القمة، أو حتى ما يراه من يقف على ذات القمة ولكنه ينظر باتجاه آخر. ومن غير الطبيعي وغير المنطقي هنا أن تتوافق الرؤى وأن تنسخ بعضها بعضاً لأنه بذلك يصبح خطاب الضعيف نسخاً لخطاب القوي، فيتحول هذا الخطاب الاقتصادي من عامل استنهاض للقوى الكامنة إلى عامل ينشر الوهم ويؤبد التبعية ويضلل الجمهور فيتحول مع الوقت لثقافة عامة سائدة في أوساط المثقفين أنفسهم.
عقدة الثقافة العربية التي تتجلى في خطابها الاقتصادي، تتجلى بشكل واضح عند تناول الاقتصاد العالمي وبحث مسيرته وتحديد نتائجها للخروج بتصور شامل حول ما يجب علينا كعرب فعله كي ننهض بتجربتنا الاقتصادية الخاصة. مساحة واسعة من الخطاب العربي تحتلها مفردات عن أهمية ليبرالية السوق وحرية التجارة ورفع القيود بشكل مطلق عن تنقل البضائع ورؤوس الأموال، وعن تضييق نطاق صلاحيات الدولة في سن قوانين السوق ما أدى في نهاية الأمر إلى تخليها عن أهم القطاعات التي شكلت الجزء الأكبر من مداخيلها، وإلى ظهور مراكز قوى جديدة تصنع السياسات بمعزل عن المؤسسة التقليدية. غريب هذا الخطاب، خاصةً لمن يدرك أن الليبرالية التي يطالب الخطاب الاقتصادي العربي بتطبيقها في السوق العربية لا تعني توسيع صلاحية الشركات والمؤسسات العربية بقدر ما تعني حصر صلاحياتها وانسحابها من الساحة لصالح الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات.
مساحة أخرى من مفردات الخطاب الاقتصادي العربي تتعلق بأبدية النظام الرأسمالي وكأنه جاء كخاتمة لتاريخ التطور في النظم الاقتصادية، هذا الخطاب يتناقض حتى مع ما تقوله مراكز الرأسمالية ذاتها فأصبحنا في دفاعنا عن الرأسمالية «ملكيين أكثر من الملك».
المنطقة العربية تستنزفها الصراعات وتستهلك اقتصادها الضعيف من الأساس. تريليونات من الدولارات تحتاجها هيئات الأمم المتحدة والمنظمات المساعدة لها لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة وتريليونات أخرى لوضع الاقتصاد العالمي على بداية طريق النهوض. كل هذا يُطرح الآن في أهم وأكبر المنابر الدولية، بينما الكثير من المثقفين العرب لا زالوا يمدحون ويمجدون إنجازات رأس المال، حالهم كحال من يقف فوق جثة يمجد حياتها السابقة وحياتها الآتية.

وعندما يخرج كاتب أو مثقف عربي ليتحدث عن إخفاقات الاقتصاد العالمي وضرورة مراجعة أسسه ونظمه وهيكلياته، يُتهم بأنه أسير لنظرية المؤامرة، أو أنه يعاني عقدة الكراهية للاقتصاد الرأسمالي وأنه يجتر خطاب الستينات القومي العربي، وكأننا اليوم أفضل حالاً من تلك المرحلة.

عقدة الثقافة الغربية المهيمنة التي انعكست على الخطاب الاقتصادي العربي، غيبت الكثير من التجارب غير الغربية عن ساحة الوعي الاجتماعي العربي، فالمثقف العربي لا يتناول بالقدر الكافي تجارب الشرق التي تعتبر أكثر قرباً وفائدة لمسيرتنا التنموية العربية مثل تجربة ماليزيا أو الصين أو سنغافورة. وحتى لو تم تناولها نظرياً، يبقى التطبيق العملي على الأرض نسخاً عن التجربة الغربية فقط. كل هذا لسبب واحد أن هذه التجارب مجتمعة لا تمثل الماركة العالمية التي صنعتها وكالات الدعاية والإعلام، ولا تمثل آخر موديلات وصيحات الاقتصاد العالمي الذي يتحول إلى اقتصاد وهمي التداول ووهمي المداخيل ووهمي النجاح، إلى درجة جعلت المجتمعين في منتدى دافوس الأخير للقول بأن النظام المالي العالمي قد ينهار في غضون سنوات قليلة.
إن مراجعة الخطاب الاقتصادي العربي السائد وتصويب منهجيته، تشكل الخطوة الأولى نحو بناء وعي تنموي اجتماعي، ونحو تعزيز الثقة بطاقات الأمة وبقدرتها على بناء تجربتها الخاصة. هذه هي أهمية الخطاب:أن يشكل الوعي الذي هو أساس الممارسة لخدمة مسيرة التنمية الخاصة في الأوطان العربية، والحرص على استقلالية الخطاب هو حرص على استقلالية هذه التنمية واستدامتها وسيادتها التي تمثل جوهر سيادة كل دولة.
نحن لا ندعو هنا لمعاداة أحد أو القطيعة مع أحد، فنقد الحالة الاقتصادية العالمية تصب في مصلحة شعوب الأرض كافة ومصلحة شعوبنا بشكل خاص، وأصبح نقد هذه الحالة ضرورة ملحة لإعادة هيكلة وبناء المنظومة الاقتصادية العالمية. نعم، نحتاج لمزيد من الجرأة والنقدية والواقعية أي نحتاج إلى قراءة الواقع وتغييره وليس التسليم به. وأكثر من ذلك نحتاج أن يكون خطابنا مرآة لمصالح الشرائح الاجتماعية كافة لا أن يكون خطاب النخبة هو السائد.

رئيس مجلس إدارة البنك الوطني العماني