أ.د. حسني نصر
لا أريد أن أسبق الأحداث وأقول إن المؤتمر الذي من المقرر أن يتم عقده في السلطنة في السابع والعشرين من مارس المقبل حول الإعلام والإشاعة يأتي في وقته تماما، بعد أن تأخرت كثيرا المؤسسات الأكاديمية والجهات المعنية في بحث هذا الموضوع المهم. والمتوقع أن يكون لهذا المؤتمر مردودات مهمة على جميع المستويات الإعلامية والاجتماعية والقانونية، بوصفه المؤتمر الأول الذي يخصص لمناقشة هذا الموضوع الشائك والمهم، ويأتي في وقت تزدحم فيه منصات النشر، خاصة الجديدة منها بكم هائل من الإشاعات اليومية التي لا يحتاج نشرها على أوسع نطاق سوى ضغطة زر واحد على جهاز هاتف ذكي لإبداء الإعجاب أو مشاركة الآخرين بمعلومات غير صحيحة.
ومع أهمية المؤتمر وما يمكن أن يثار خلاله من قضايا، وما يطرح فيه من رؤى علمية تفسر الجوانب الدينية والنفسية والاجتماعية وربما السياسية التي تقف وراء ظاهرة انتشار الإشاعات في المجتمع، ومع أهمية ما قد يصدر عنه من توصيات تستهدف حماية المجتمع من هذا الخطر الداهم، وتعالج مواطن الخلل في أساليب التعامل معه، يصبح من المهم أن نؤكد على بعض الحقائق العلمية المتصلة بإيجاد ونشر وتوزيع الإشاعات في المجتمع، وهي حقائق يجب عدم إغفالها حتى لا نُحمل الإعلام ووسائله التقليدية والجديدة ما لا يحتمل.
أول هذه الحقائق أن اختلاق ونشر الإشاعات طبيعة بشرية لا يمكن إنكارها. إذ تميل النفس البشرية في الغالب إلى اختراع الأحداث واصطناع الأخبار ونقلها وتبادلها مع الآخرين. ولعل ما يؤكد حتمية وجود الإشاعات في المجتمع الإنساني أن القرآن الكريم أقر بوجودها وحذر منها في أكثر من موضع ودعا المؤمنين إلى التثبت من الأخبار، ومن ذلك قول الله تعالى في سورة الحجرات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ). وكما يكذب البعض أحيانا ويزين هذه الأكاذيب بوصفها «أكاذيب بيضاء»، فإننا وبنفس السهولة نولد الإشاعات ونمررها بل ونبحث عنها ونبدي إعجابنا بها ونساهم سواء بوعي أو بدون وعي في نشرها. هذا السلوك الإنساني الصرف رغم أنه غير أخلاقي، إلا أننا قد نتقبله مرغمين في أوقات كثيرة طالما ظلت الإشاعة في نطاق ضيق، أي بين الأصدقاء والزملاء وربما داخل الأسرة الواحدة. أما ما لا يمكن قبوله فهو أن ننشر الإشاعة على نطاق واسع ليصبح الضرر على المجتمع كله.
الحقيقة الثانية في هذا المجال أننا يجب علينا ونحن نحذر من خطورة نشر الإشاعات والترويج لها أن نعلم أن الإشاعة بنت المجتمع الذي تظهر فيه، وتمثل نمطا معترفا به من الرسائل الإقناعية يتضمن نقل معلومات غير مؤكدة، وفرضية أو اعتقاد ورؤية أو تفسير لم يتم التحقق من صحته لأحداث تثير الاهتمام العام، يتم تمريرها من شخص إلى آخر دون أن يرافقها دليل. ومن منظور اجتماعي يمكن القول إن الإشاعة أداة يستخدمها الناس في فترات القمع السياسي التي تغيب فيها منافذ التعبير الحرة، بهدف التعامل مع مصاعب الحياة وربما الانتقام من السلطة. ولعل هذا ما تؤكده المقارنة بين حجم وخطورة الإشاعات التي تنتشر في المجتمعات المتقدمة والمجتمعات النامية. وتصب المقارنة بالقطع في صالح المجتمعات الأولى التي وصلت إلى صيغة من الحكم تتسم بالشفافية والوضوح، وهو ما يجعل اختلاق ونشر الإشاعات أمرا صعبا ونادرا.
الحقيقة الثالثة والمهمة التي يجب أن ندركها هي أن الإشاعة في جوهرها محاولة من الناس لفهم الأحداث والحقائق غير الواضحة أو التي لم يعلن عنها أو غير المؤكدة، كما أنها بالنسبة للمشاركين في إيجادها ونشرها طريقة لملء الفجوات المعلوماتية التي لم تملأها القنوات الاتصالية الرسمية. ومن هنا فإن أية جهود لمواجهة الإشاعات في المجتمع يجب أن تبدأ بتقنين حرية الحصول على المعلومات من مصادرها الرسمية، وحرية نشرها عبر منافذ النشر المختلفة دون قيود طالما أنها لا تضر بالأمن القومي، ولا تتضمن ما يمكن أن يشكل جرائم نشر كالسب والقذف والتشهير والإهانة. من المهم بالطبع أن تضع الدول القوانين التي تجرم نشر الإشاعات بأي وسيلة كان هذا النشر، ولكن قبل ذلك فإن عليها أن توفر المعلومات للمواطنين وتتيح وصولا سهلا ومأمونا لها. وبالتالي فإنه في ظل غياب قوانين حرية المعلومات من المتوقع أن يستمر توالد الإشاعات في مجتمعاتنا ربما بوتيرة أكبر وخطورة أشد بسبب تنوع منصات النشر غير الرسمية وسهولة استخدامها. وفي هذا الإطار أيضا يجب أن ندرك أن الإشاعة تبدو في بعض الأحيان وفي بعض المجتمعات بديلا عن التعبير السياسي، ولذلك تنتشر وتزدهر الإشاعات في المجتمعات التي تغيب فيها الانتخابات الحرة والتمثيل الشعبي النزيه في مؤسسات الدولة.
آخر الحقائق التي نرى أنه من المهم الإشارة إليها قبل عقد هذا المؤتمر المهم أن عملية اختلاق ونشر الإشاعات في المجتمع أصبحت أقرب إلى العدوى الفيروسية التي تنتقل بسرعة كبيرة من شخص إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى. وعلى هذا الأساس يجب أن تتكاتف كل الجهود لمواجهة هذه العدوى، خاصة مع تزايد استخدام شبكات التواصل الاجتماعي التي تتيح لمستخدميها بدرجة عالية من السهولة إيجاد وتوزيع الإشاعات من خلال خدمات الإعجاب والمشاركة والتعليق. تلك العدوى التي قد تصيب مستخدم هذه الشبكات بفعل تعرضه المستمر لهذه الإشاعات وسعيه إلى اختلاق ونشر شائعات تلبي احتياجاته النفسية للشعور بالراحة أو الانتقام أو التعبير عن الغضب أو السعادة أو غيرها من المشاعر الإنسانية. وتبدو عدوى نشر الإشاعات على شبكات التواصل الاجتماعي أكثر احتمالا من نشرها في وسائل الإعلام التقليدية التي تحرص إلى حد كبير على سمعتها وتمر الأخبار فيها على عدد كبير من البوابات للتأكد من صحتها.
أكاديمي بجامعة السلطان قابوس