استحالات اقتصادية لأحفادنا

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٧/فبراير/٢٠١٧ ٠٤:٠٥ ص
استحالات اقتصادية لأحفادنا

كوشيك باسو

جرت الانتخابات الرئاسية في النمسا 4 ديسمبر، والتي كاد يصل فيها اليمين المتطرف إلى السلطة، وهي خاتمة رواية لعام حزين. حالة عدم اليقين والخوف الذي يشعر بها كثير من الناس اليوم تذكرنا بقصيدة و.ه. أودن «1 سبتمبر1939»: «وبما أن الآمال الذكية انتهت في عقد من الزمن الدنيء وغير الأمين».

شهد هذا العام ترنح العديد من البلدان إلى اليمين، نحو القادة والأحزاب السياسية التي تخدم المصالح الحزبية والهويات الضيقة. هذا الاتجاه ليس انحرافا عابرا: هذه السياسة الشريرة متجذرة بدورها جزئيا في التغيرات الاقتصادية الجارية التي وصلت الآن إلى نقطة التحول.

وشهد الفقراء والمنتمون إلى الطبقة الوسطى اختفاء وظائفهم وتآكل دخلهم، وهم الآن يساهمون في زعزعة الوضع الراهن، متجاهلين أنهم يختارون القادة الذين سوف يجعلون الأمور أكثر سوءا.

السبب الأساسي للمشكلة ليس الهجرة أو التجارة، كما يقول الشعبويون، وإنما مسيرة ثابتة من التكنولوجيا. كما يتم استبدال الوظائف بآلات أو بإرسالها إلى الاقتصادات الناشئة، وأخذ الناتج المحلي الإجمالي العالمي في التوسع، ولكن لا يتم توزيع الأرباح بالتساوي، وبعض الجماعات لا تستفيد تماما. وتعاني العديد من البلدان من عدم المساواة ونمو سلبي للناتج المحلي الإجمالي - 3.3 % في البرازيل، على سبيل المثال، 10 % في فنزويلا 1.8 % في الأرجنتين، و0.8 % في روسيا. أما في بلدان مثل اليابان وإيطاليا، فيتزايد الناتج الإجمالي، ولكن بصعوبة.
وتنمو الصين والهند من جانبها بشكل معقول، لكن مؤخرا أوجدت حكومة الهند وجعا بسيطا في محركها الاقتصادي من خلال إعلانها سياسة إلغاء الأوراق النقدية الكبيرة بطريقة عشوائية. وتحافظ الصين على النمو عن طريق السماح لديون الشركات بالتراكم بصورة غير مستدامة، الأمر الذي يشكل مخاطر كبرى يتم إخفاؤها جزئيا، ولكن زادت حدتها أيضا من خلال المنتجات المالية الجديدة ذات العائد المرتفع. والأهم من ذلك العمل تدهور التصنيع، على الرغم من ادعاء المسؤولين الصينيين أن الخريجين الجدد ببساطة أخذوا استراحة قبل بدء حياتهم المهنية. في العام 1995، شكلت الأجور نسبة 53 % من الناتج المحلي الإجمالي في الصين، أما الآن فقد بلغت النسبة 47 %.
في الولايات المتحدة، انخفض معدل البطالة الاسمي، ولكن هذا يناقض اتجاها صاعدا. وتظهر بيانات رسمية أن ​​الأسرة المتوسطة أسوأ حالا الآن مما كانت عليه في العام 1999، على الرغم من نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد بشكل كبير. وهذا يعني ذهاب جميع المكاسب إلى ذوي الدخل الأعلى.
هناك نوعان من القوى الأساسية وراء هذه الاتجاهات: الابتكار التكنولوجي، والذي لا مفر منه ومرغوب فيه على حد سواء، والاعتماد على الدخل من العمال من قبل أولئك الذين يمتلكون الأجهزة الموفرة للقوى العاملة الجديدة، والتي ليست حتمية وغير مرغوب فيها. وكثيرا ما وُصفت المشكلة بأنها مشكلة العمل مقابل العمل: يتنافس العمال في الاقتصادات المتقدمة مع أولئك الموجودين في البلدان النامية. في الحقيقة، هي مشكلة العمل مقابل رأس المال. في كل الأحوال، تقلص عدد الوظائف الصناعية، ولم يتقلص قطاع الصناعات التحويلية في حد ذاته.
لنتأمل على سبيل المثال شركة «إيستمان مشين» في بوفالو بولاية نيويورك -المدينة التي تشهد عودة التصنيع ولكن في شكل مختلف عن السابق- تصنع «إيستمان مشين» آلات وأدوات لقطاع الغزل والنسيج، وتُصدر نصف إنتاجها في كثير من الأحيان إلى البلدان النامية مثل بنجلاديش وفيتنام. مفتاح نجاحها هو أنها لا تعتمد على العمل البشري تقريبا. ويعمل لديها فقط 122 شخصا، الذين يشكلون مجرد 3 % من إجمالي تكاليف إنتاجها.
هناك مشكلة أخرى ذات الصلة. بواسطة التكنولوجيات الجديدة التي توجد اقتصادات واسعة النطاق، وشركات مثل «إيستمان مشين» -بعد تكبد تكاليف باهظة في البدء- يمكن تصنيع منتجات قليلة. وهذا ما جعل بعض الأسواق أكثر مراقَبَة، وأكثر احتكارية في بعض الحالات. وسوف يستمر هذا الاتجاه.
وبالإضافة إلى ذلك، لأن الشركات مُزودة على نحو متزايد بمعلومات حول المستخدمين، يمكنها ضبط السعر واستخراج الفائض من المستهلكين، بكل سهولة أكثر من أي وقت مضى. وقد أوجدت هذه التغيرات تحديات جديدة للمنظمين والمُشرعين.
لقد تنبأ جون ماينارد كينز الكثير من ملامح الحياة الاقتصادية، لكن ارتكب خطأ كبيرا واحدا. في مقاله سنة 1930 بعنوان «الاحتمالات الاقتصادية لأحفادنا»، توقع أن جميع المشاكل الاقتصادية الرئيسية ستجد «حلا» في غضون مئة سنة، وسيكون لدينا فقط مشكلة كيفية تمرير الوقت. لكنه لم يتوقع أن المشاكل الاقتصادية سوف تتطور باستمرار. على سبيل المثال، استراتيجيات الأعمال تتغير باستمرار، لأن كل الحكومات أوجدت قواعد تنظيمية لخدمة مصالح المستهلكين، لكن المنتجين يجدون سبلا جديدة لخدمة مصالحهم.
نحتاج إلى قوانين وتنظيمات جديدة وخلاقة لعكس الاتجاهات تفاديا لاتساع عدم المساواة واحتكار السوق. وينبغي لهذه التدابير تجسيد الأفكار التي كانت ذات يوم جذرية، مثل تقاسم أرباح الشركات مع العمال، وحماية المستهلك لمنع التمييز في الأسعار.
ومن المؤكد أنه يجب أن يحرص أي نظام جديد على تحفيز رجال الأعمال على الإنتاج والابتكار، وتوسيع شركاتهم. لكن الحفاظ على حافز الربح لا ينبغي أن يكون ذريعة لأصولية أو لاحتكار السوق. إذا كنا قد تعلمنا شيئا في العام 2016، فهو أن لا يترك كل شيء للسوق وإلا سيؤدي ذلك إلى الاضطراب الاجتماعي والسياسي.
وبطبيعة الحال، في الوقت الحاضر، يمكن أن تؤدي الدعوة إلى أشكال مبتكرة لتدخل الدولة لمحاربة عدم المساواة إلى التهمة بالشيوعية. ذات يوم، كنت في مدينة كالكتا، وأخبرتُ أمي أنني سوف أحضر مؤتمرا دوليا قادما حول الرعاية الاجتماعية، الذي سيحضره أبرز خبراء الاقتصاد في العالم، سمعتها تتباهي بذلك لابن عمها بأنني سأشارك في اجتماع مع «شيوعيين» آخرين لمناقشة كيفية جعل العالم مكانا أفضل. لكن نظرا لتقدم سنها الذي بلغ 90، قامت بخلط الكلمات المتشابهة في النطق. المحللون اليوم ليس لديهم مثل هذا العذر فقط سِحر المهووسين بالوضع الراهن الذي يزداد خطرا.

كبير الاقتصاديين في البنك الدولي سابقا
ومستشار الرئيس الاقتصادي لحكومة الهند