حامد بن شظا المرجان
أصبحت سلطنة عمان من خلال علاقاتها الدولية التي تؤيد السلام الدولي واحترام دول العالم بصرف النظر عن اتجاهاتها وأيدلوجياتها السياسية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد -أصبحت- حمامة سلام للعالم أجمع. هذه السياسة التي تبناها باني عمان الحديثة لها أهداف مختلفة لا نستطيع في هذا المقال البسيط سردها، ولكننا سنتطرق إلى فائدتها الاقتصادية والتجارية التي تعد إحدى مخرجات هذا السياسة الدولية. العلاقات الدولية ليست سياسة فقط مثل ما يعتقد البعض، إنما علاقات اقتصادية وتجارية، وإذا كانت بعض الصراعات الدولية أسبابها سياسية فإن الاقتصاد والتجارة يلعبان دوراً رئيسياً في الأمن والسلام الدوليين. على سبيل المثال، فإن الاستعمار الدولي كانت أهدافه اقتصادية وليست سياسية، فقد سيطرت الامبراطورية البريطانية على العالم كانت تجارية من خلال شركاتها مثل شركة الهند الشرقية والشركات التابعة لها مثل شركة النفط البريطانية وشركة شل الهولندية البريطانية وغيرها من الشركات التي يطلق عليها اليوم شركات عابرة للقارات، هذه الشركات كانت تمثل السيطرة التجارية من خلال استغلالها لثروات العالم الطبيعية وإيجاد مستهلكين لبضائعها المصنعة، ولعدم الاسترسال في أطروحة التجارة الدولية نقول إن التاريخ يعيد نفسه، وعلى القارئ استنتاج وتحليل ما نريد قوله. سلطنة عمان كانت أيضا امبراطورية تجارية، ولا نقول كانت تنافس الامبراطوريات الأوروبية ولكن كتب التاريخ تحكي لنا الكثير عن الامبراطورية العمانية وعلاقاتها الدولية مع دول العالم في ذلك الوقت. وإذا كان التاريخ يعيد نفسه فقد بدأت السلطنة تستفيد من هذا العلاقة الدولية من خلال إعادة وتغيير قانون الاستثمار بما يتناسب مع الظروف الدولية. منطقه الدقم الاقتصادية تقع في موقع جغرافي استراتيجي مؤهلة لأن تصبح من خلاله نموذجاً للاستثمار ومركزاً اقتصادياً مهماً للتجارة والصناعة في المنطقة، التي تحظى -بعمومها- بموقع استراتيجي مميز يجعلها قبلة للاستثمار والتجارة الدولية في ظل نظام اقتصادي عالمي يتنافس على الاستثمار في المناطق التي تتميز بمواقعها الجغرافية، فهناك ثمة اهتمام دولي متصاعد بالاستثمار في السلطنة باعتبارها منطقة إقليمية استراتيجية مهمة ومركزاً اقتصادياً وتجارياً عالمياً، وتجري ترجمة ذلك من خلال مشروع تطوير ولاية الدقم الذي جعل خبراء المال والاقتصاد ينظرون إلى السلطنة بأنها ورشة كبيرة لمشاريع قد تترك أثراً بالغاً في اقتصاديات المنطقة. ومشروع الدقم من شأنه أن يحوّل النمط التقليدي لنمو المنطقة من قرية مختصّة في الصيد إلى ميناء واسع ومركز تجاري دولي وعالمي يهدف إلى اجتذاب الاستثمار والصناعة من جميع دول العالم دون استثناء، وقولنا «دون استثناء» نشير به إلى ما تتميز به السلطنة من علاقات دولية مع جميع دول العالم؛ وبالتالي فإن الاستثمار في سلطنة عمان والدقم خاصة سيكون متاحاً لجميع الشركات الدولية ومفتوحاً للسفن التجارية والجهات الشاحنة التي ترغب في المرور إلى الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأوروبا. وتطمح السلطنة إلى أن تصبح منطقة الدقم الاقتصادية مركزاً محورياً مهماً للتجارة والصناعة والاستثمار في المنطقة بحكم موقعها الاستراتيجي على مشارف المسار البحري للتجارة الدولية بين الشرق والغرب، وتشهد المنطقة حالياً إقامة العديد من المشاريع العملاقة التي ستعزز دورها الريادي في مجالات الصناعة والتجارة والاستثمار. هذا المشروع الحيوي لا يمثّل مفتاح نهضة سلطنة عمان المقبلة فحسب، بل يمثّل مدى الرؤية العمانية واستفادتها من موقعها الاستراتيجي في المنطقة، فالسلطنة تطل على مضيق هرمز، ذلك الممر المائي الضيق بين إيران وشبه الجزيرة العربية الذي يمر عبره 40 في المئة من نفط العالم. وتقع الدقم في الركن الجنوبي الشرقي من المنطقة الوسطى للسلطنة، بين مدينتي مسقط وصلالة، ويحدّها شرقاً بحر العرب والمحيط الهندي، فالدقم سوف تكون مفتاح الحركة على المحيط الهندي وستوفر دوراً مهماً للتجارة العابرة من الغرب إلى الشرق وبالعكس. يقول المحللون الاقتصاديون إن منطقة الدقم الاقتصادية قريبة من مراكز الطاقة في الخليج، كما أنها في وسط بحر العرب الذي يربط الهند وشرق أفريقيا، وستكون مدينة الدقم ذات أبعاد اقتصادية وثقافية وترفيهية نظراً لأن المدن الصناعية غالباً ما تجلب معها التجارة والأعمال مثل سنغافورة، وستكون نموذجاً للمدن الصناعية الحديثة في القرن الحادي والعشرين. وستقدم منطقة الدقم خدمات التزويد والإصلاح للسفن العملاقة، فقد تمّ استثمار عدد من المليارات في بناء عدد مهم من الأرصفة والأحواض الجافة والطرق، والمطارات، وسيتمّ إنفاق المزيد من المليارات لضمان اكتمال تحوّل الدقم إلى مدينة اقتصادية حديثة في الشرق الأوسط. وتعد مدينة الدقم مفتاح تنمية السلطنة بأكملها، بحكم قدرتها على تعزيز الصلة التي تربط محافظة ظفار جنوب غرب البلاد وميناء صلالة بموانئ مسقط وصحار شمال شرق عمان، أما بالنسبة إلى للدول الصناعية مثل كوريا واليابان والصين والهند، فمن المتوقع أن تكون الدقم الجسر العابر لسلعها المُوجّهة إلى شبه القارة الهندية وإلى نقاط مختلفة من أفريقيا والشرق الأوسط، وسوف تشمل منطقة الدقم مصائد أسماك، ومصفاة لتكرير نفط، ومركزاً لعبور البتروكيماويات، وخط سكة حديد، ومصنعاً للمعادن، ومحطّة لإزالة الملوحة، ومستشفى، ومركزاً تجارياً، مدرسة دولية وسط المدينة، ومنطقة سياحية. ومن الواضح أن المطار هنا سيتضمّن مرافق شحن، أمّا المدرج الذي تمّ بالفعل بناؤه، فيمتدّ على مسافة كافية لاستقبال الرحلات القادمة من جميع دول العالم، والجدير بالذكر أنه توجد رحلة يومية حالياً للطيران العماني بين مطار الدقم ومطار مسقط الدولي، وإذا أضفنا الـ80 كيلومتراً التي يمتدّ عليها الخط الساحلي المخصص للدقم، فيمكن لمساحة هذه المدينة أن تتجاوز سنغافورة ونحن لا نزال بعدُ في المرحلة الأولى من البناء، المستوحاة فقط من موقع المدينة على الخريطة. ومن شأن الاكتشافات الجديدة للغاز الطبيعي في الصحراء العمانية، في الجزء الخلفي من الميناء، أن تساعد على تلبية احتياجات الدقم للطاقة. كما ستربط سكة حديد جديدة الدقم بمسقط ودبي وجميع الموانئ الموجودة شمال الخليج وصولاً إلى الكويت، والخلاصة أن السلطنة تحظى منذ عقود بظروف مثالية من الاستقرار والحكم الرّاجح تُميّزها عن بقية دول الشرق الأوسط، وهو ما يُميّز الدقم. فتمركز ميناء مُعيّن في موضع مثالي من البحر لا يكفي ليجعل منه موقعاً «استراتيجيا»، بل وجب اعتبار موضعه من اليابسة، وفي حال نجاح مشروع الدقم ستصبح المدينة أحد أهمّ رموز القرن الحادي والعشرين، على غرار ما كانت عليه كثير من الموانئ العالمية. وفي حال استمرار النمو السكاني وتطوّر الآفاق النظرية للنموّ الاقتصادي في الهند وشرق أفريقيا، يمكن للمحيط الهندي أن يصبح مركزاً جيوسياسياً أساسياً للعصر ما بعد الحديث.
باحث ومستشار تنموي