زاهي وهبي
كنّا أطفالاً في قرية حدودية نائية أقصى الجنوب اللبناني على كتف الجليل الفلسطيني، كانت العصافير تزقزق هنا فيتردد صداها هناك، مواويل الصبايا تعبر الوهاد والأودية حنيناً الى الأرض السليبة، ومناديل الأمهات البِيض تلمع تحت شمس الشهداء "الصاعدين الى حتفهم باسمين" لأنهم قضوا في الجهة الصواب ولأجل القضية الصريحة الواضحة: فلسطين. تلك حكاياتٌ أُخَر نعود اليها ذات نصٍّ أو قصيدة. نروي الآن حكاية الكتاب في بيئة فقيرة محرومة (حينئذ) من أبسط أدوات العيش العادي فلا مياه سوى ما تجود به السماء، والكهرباء مثل غيم شباط تحضر ساعة وتغيب ساعات، كانت القرى تسهر على ضوء الشموع والدموع حنيناً لمن غابوا خلف البحار سعياً وراء لقمة العيش، لم يكن ثمة قاعة مسرح أو صالة سينما أو حتى ملعب لكرة القدم، كان الكتاب عزاؤنا الوحيد وسلوانا الدائمة، ليس فقط حُبّاً بالقراءة، بل أيضاً لتزجية الوقت وتصريف الأيام وملء الفراغ، كان نافذتنا على العالم وشرفتنا التي نطل منها على دنيا أخرى غير الدنيا التي نعرف ونعيش.
عالم قرويٌّ ساحر يشبه تلك الضِّياع التي تغنيها فيروز في مسرحيات الرحابنة، أزعمُ أننا عشنا في ميس الريم وجبال الصوان وعرفنا جسر القمر وجسر اللوزية قبل أن تدفعنا الاعتداءات الإسرائيلية اللئيمة الى موسم هجرات متلاحقة قادتنا احداها الى قرى قضاء صور الساحلية، هناك قبالة الأبيض المتوسط حيث يختلط رذاذ الموج برائحة زهر الليمون وملح البحر بِعَرَق الصيادين، لم يكن الحال أفضل لجهة مستوى العيش ووسائله وأدواته، الفقر ذاته والحكايات ذاتها، لا مكان لبراءات الطفولة وحماسة الفتوَّة غير البراري والحقول، نتعفر بالتراب ودعاء الأمهات، نطارد زيزان الذهب وجنادب الصيف وفراشات الحقول، ثم نعود مساءً لنتحلّق حول شاشة تلفزيون وحيدة في دكان أبي أسعد الذي كان يجعل صناديق الخضار الفارغة مقاعد لنا لنشاهد بالأبيض والأسود، لقاءَ عشرة قروش من كل واحد، ما نُحبُّ ونهوى من برامج تلك الأيام: أبوسليم الطبل وفرقته، أبو ملحم، الكلب ران تان تان، بونانزا وعناوين أخرى لزمنٍ سابقٍ على الپال والسيكام والديجتال والثري دي وسائر الألوان والأبعاد.
تلك أيضاً حكاياتٌ أُخَر، حكايتنا الآن عن خير جليس والصديق وقت الضيق. حقاً يظلُّ الكتاب الصديق الأوفى، لا يتوانى عن تلبيتك في عزِّ الفواجع والأحزان، يكفكف دمعتك مثلما يشاركك ضحكتك، لا يأنف ولا يتأفف، لا يغدر ولا يطعن في الظهر، يلبي النداء كل ساعة وكل حين، لا يحتاج شاحناً ولا واي فاي ولا حتى كهرباء، حاضرٌ ناضرٌ أنَّى شئتَ، في السَّرَّاء وَالضَّرَّاء، تحت سقف أو في العراء، على أريكة أو على "بساطٍ أحمديٍّ"، في غرفة النوم أو في غرفة الطعام، وكم تناولتُ الفطور والغداء والعشاء بصحبة نجيب محفوظ ومحمود درويش وغسان كنفاني وغادة السمَّان وبقية الأسماء المضيئة في ليل عربيٍّ طويل، وسهرت حتى مطلع الفجر برفقة فكتور هوغو وآرنست همنغواي ومرغريت ميتشل وإميلي برونتي ومكسيم غوركي وكولن ولسن وسواهم من مبدعي الحرف والكلمة.
سقى الله زماناً كنّا نتباهى فيه بالكتاب، نخرج الى ساحة القرية نتأبط شعراً ونثراً وعناوين أكبر من أعمارنا أحياناً لنبرهن أننا حقاً قرَّاء، أَهَيِّنٌ أن تكونَ قارئاً؟ القارىء الحقيقي لا يقل مكانةً عن الكاتب، كلاهما ضرورة للآخر. لم يكن يومها الكتاب متاحاً بهذه السهولة، فلا مكتبات ولا مَن يحزنون، كنّا نستعير الكتب من بَعضنا بعضاً، ونوفِّر من "خرجيتنا" (مصروفنا اليومي) قروشاً قليلة لنجمع ثمن كتاب نوصي أحد أبناء القرية الذاهبين الى بيروت أن يشتريه لنا، وكم كانت الفرحة تكبر حين يغدو لدى أحدنا مجموعة أعمال كاملة لكاتب ما، يوضبها ويداريها كأنها تحفٌ نادرة، وهي في جوهرها أغلى ثمناً وأكثر فائدة. التحفة تعلّقها في البيت، على رفٍّ أو في واجهة "ڤترينة"، الكتاب تسافر به الى كل الدنيا، يهبك جناحين تحلّق بهما في الأعالي، تعود بهما الى أزمنة غابرة أو يقذفانك نحو المستقبل، كل كتابٍ تقرأه هو حياة أخرى تعيشها.
على صفحة واحدة في كتاب تنبت ألاف الحدائق، تضج مدن بالحياة، يتعانق عاشقان، تُذرَفُ دموع، تصدح موسيقى، ترقص امرأة، يفوح عطر الكلمات، تندلع حروب وتنتهي أخرى. باختصار الكتاب يقدّم لك ما تريد وما تبحث عنه، قصص حب وغرام وانتقام، سِيَر الناس والشعوب والقادة، حكايات من ألف ليلة وليلة الى آخر ما خطَّه الأدباء والشعراء والفلاسفة والمفكرون، تقرأ فيها تجارب الأولين وتستشرف آفاق الآتي من أيام، فلا تقدٌم ولا تطور الى أمام، ولا نهوض من كبوات الزمان لم يكن الكتاب جزءً لا يتجزأ من حياة الناس، سواء كان بصيغة ورقٍ نشأت أجيال عليه أو بصيغة "إلكترون" تنشأ أجيال جديدة على مستجداته المتسارعة.
إقرأ، تلك كانت أولى كلماتِ كتابِ الله.
وَيْلٌ لأمَّةٍ بلا كتاب.