"عجز الموازنة وميزان المدفوعات".. تبعات وحلول

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٣٠/يناير/٢٠١٧ ٠٤:٠٠ ص
"عجز الموازنة وميزان المدفوعات".. تبعات وحلول

مرتضى بن حسن بن علي
appleorangeali@gmail.com

كما هو معروف تعاني السلطنة شأنها في ذلك شأن الدول الخليجية الأخرى وعدد من الدول من عجز في موازناتها بسبب الانخفاض الشديد في أسعار النفط، المصدر الرئيسي لإيراداتها. وإجمالا وعند حدوث عجز كبير في الموازنة العامة في تلك الدول فإن الآثار التالية تكون مصاحبة لها:
1. نشوء عجز كبير في الموازنة وتعرض العملة الوطنية للضغوطات نتيجة للعجز في ميزان المدفوعات.
2. ركود اقتصادي حاد.
3. السحب من الاحتياطيات والاقتراض من الخارج وتأمين الودائع بالنقد الأجنبي لمواجهة الوضع المستجد.
وعموما فإن وسائل العلاج تتمثل في الآتي:
1. ضغط النفقات: وهذا يعالج الأثر الأول والمتمثل في نشوء عجز في الموازنة وذلك بإعادة التوازن ويتم ذلك عن طريق ضغط نفقات الدولة بمقادير تتساوى وإيراداتها المالية، كما يعالج جزءا من الأثر الثاني والثالث المتمثل في نشوء عجز في ميزان المدفوعات وذلك لانخفاض واردات الحكومة السلعية نتيجة لضغط نفقاتها، أما واردات القطاع الخاص فإنها تستمر لفترة ما قبل أن تنخفض. أما فيما يتعلق بالأثر الثاني والمتمثل في نشوء ضغط على سعر الصرف فإنه يعالجه جزئيا نظرا لأن الضغط على سعر الصرف ناتج عن مشاكل في ميزان المدفوعات، وهذا الإجراء يعالجه جزئيا كذلك، غير أنه لا يعالج الأثر الثالث "الركود الاقتصادي"، بل يضخمه لأنه يقلص نشاط الحكومة إلى حد كبير وبالتالي يقلل من نشاط القطاع الخاص بنفس النسبة، الأمر الذي يزيد من حدة الركود الاقتصادي الذي يؤثر سلبا على النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية حيث إن تأثيره على الاقتصاد الخاص يظل متسلسلا، بمعنى أن تأثر شركة يؤدي إلى تأثر شركة أخرى وهو بدوره يؤدي إلى تأثر البنوك "حلقة مفرغة". وكل ذلك يؤدي ليس إلى عدم القدرة على وضع حلول للمجاميع المتزايدة من الباحثين عن عمل بل إلى تسريح الآلاف منهم، كما أنه يبقى عصيا بسبب أن الجزء الأكبر من النفقات يتمثل في بند الرواتب في القطاع الحكومي الذي تضخم بشكل كبير إضافة إلى المصاريف الجارية والاستهلاكية الأخرى.
2. فرض الضرائب: يعالج الأثر الأول جزئيا والمتمثل في العجز بالموازنة وذلك بفرض الضرائب المختلفة. وهناك إمكانية محدودة لزيادتها مما يقلل من فعالية هذا الإجراء. وفيما يتعلق الأمر بالأثر الثاني: "نشوء عجز في ميزان المدفوعات" فإن هذا الإجراء يعالجه جزئيا وذلك لأن زيادة الضرائب تقلل من دخول الأفراد والشركات وبالتالي تخفض طلبهم للسلع في الأسواق مما يُحد من كمية واردات السلطنة السلعية. وفيما يتعلق بالأثر الرابع "نشوء ضغط على سعر الصرف" فإن هذا الإجراء يعالجه جزئيا أيضا لأن علاجه لميزان المدفوعات كان جزئيا أيضا.
3. الاقتراض والسحب من الصناديق الاحتياطية: من الناحية الفنية هناك حدود على إمكانية الاقتراض ولا سيما إذا كان من أجل تمويل الاستهلاك وليس لبناء مشاريع تنموية تتمكن أن تسدد أقساط القروض وكذلك هناك حدود ناهيك عن الصعوبات التي قد تواجهها بالاقتراض في مثل هذه الظروف. كما أن هناك حدودا للسحب من الاحتياطي باعتباره غير جائز فنيا لأنه يعتبر صمام الأمان عند حدوث الأزمات الكبرى.
4. تعديل سعر الصرف: من ناحية العجز في الموازنة العامة فإن هذا الإجراء يستفاد منه كثيرا ‏لأن العائدات بالعملة الوطنية سوف تبقى كما هي ولكن ستظل هناك فروقات الفوائد للقروض الخارجية وإقساطها حيث إنها مرتبطة بالعملات الأجنبية، إضافة إلى بعض العقود العسكرية. من الناحية النظرية فإن هذا الإجراء هو الأقدر على تقليل العجز لأنه سيرفع أسعار السلع المستوردة وبالتالي سوف يؤدي إلى تخفيض الاستيراد عموما مما يؤدي إلى تحسين ميزان المدفوعات كما سيشجع بعض الصادرات. ولكنه سيسبب ركودا اقتصاديا، غير أن التخفيض يساعد على علاج الموضوع فيقل الطلب على العملات الأجنبية وأهمها الدولار في حين سيظل التعامل داخليا بالعملة الوطنية دون تأثير كما أن ذلك سيعني تخفيض كبير في الرواتب وبالتالي تخفيض نفقات الحكومة وسيصاحب ذلك تضخم هائل من الصعوبة تحمله كما يؤدي إلى بطء كبير في النشاط الاقتصادي.
ما هي الخيارات المتاحة إذن؟
الخيار الأول: ترك هبوط أسعار النفط ينتج أثره بالكامل على مستوى النشاط الاقتصادي حاد مثلما حدث في دول عديدة.
الخيار الثاني: عكس الخيار الأول عن طريق التوسع في الإنفاق والتضحية بالتوازن على أساس أن العجز سيدبر ماليا سواء بارتفاع أسعار النفط أو بالاقتراض والسحب من الاحتياطي أو طبع العملة " البنكنوت". هناك ثمن غالٍ جدا لذلك. فالتضخم لابد أنه حاصل. والاقتراض من الخارج في وضع كهذا يعتبر مخاطرة غير محسوبة وربما صعبة جداً.
الخيار الثالث: تخفيض العملة الوطنية: نظريا كلما كانت نسبة التخفيض أقل كانت صلاحية العلاج أقل. ونظريا فإن الآثار الإيجابية تتمثل في تقليل العجز وتصحيح ميزان المدفوعات والمحافظة على قيمة إيرادات الدولة بالعملة الوطنية وتشجيع الصادرات الوطنية، كما يعتبر تخفيض العملة الوطنية تخفيضا عمليا للرواتب وضريبة غير مباشرة على الجميع وإعطاء الاقتصاد مرونة في قدرته على مواجهة الظروف المستجدة.

في عُمان فإن وزارة المالية تبذل جهدا لضمان الاستقرار المالي والاقتصادي والمحافظة على النمو ولو بشكل محدود مع الحرص على تحقيق التوازن. والصعوبات التي تواجه صانع أي قرار في مثل هذه الظروف ليست سهلة، الأمر الذي لا بد أن يدفعنا إلى البحث عن حلول اقتصادية وعدم الاكتفاء بالحلول المالية والمحاسبية والتقليدية. هناك حدود لا يمكن تخطيها لتقليل النفقات وخصوصا أن أكثر النفقات هي لتغطية الرواتب. وأعداد الموظفين تفوق نحو خمسة أضعاف ما نحتاجها. ورفع الضرائب لها حدود من الصعوبة تخطيها قبل أن تنقلب إلى عكسها.

وتخفيض سعر العملة لها تبعات سلبية مختلفة منها ارتفاع الأسعار والمطالبة بزيادة الأجور من الوافدين والمواطنين وزيادة تكلفة الخصوم المقومة أصلا بالعملات الأجنبية وتباطؤ في النشاط التجاري بشكل كبير كما أن تأثير ذلك على صادراتنا يبقى محدودا بسبب عدم وجود سلع تذكر لتصديرها ولأن أكثر مواد الخام المستعملة في الصناعات مستوردة والأكثرية العظمى من القوى العاملة وافدة والتي سوف تطالب بزيادة الأجور.

فما هي الحلول المتاحة في اعتقادي؟
1. تخفيض الإنفاق الاستهلاكي المتعاظم والتركيز على المشاريع الإنتاجية المولدة للدخل والموفرة لفرص العمل كما أن توفير القروض لها أسهل.
2. تعديل كل القوانين والإجراءات وسن قوانين جديدة لإيجاد بيئة صديقة للاستثمارات الداخلية والخارجية وتحويل عُمان إلى مركز مالي اقتصادي تجاري وسياحي جذاب. والسياحة بجميع أنواعها سوف تجذب تدريجيا بلايين الدولارات كما سوف توفر فرص عمل هائلة.
3. دراسة كل الوسائل الممكنة لتخفيض عدد العاملين في الجهاز المدني ولاسيما هؤلاء الذين لهم مصادر دخل أخرى والبحث بأنجع الطرق الممكنة في تطبيق القانون المتعلق بتعارض المصالح الخاصة والعامة وبحث كل الوسائل العملية لإعادة تدريب أعداد أخرى وإلحاق ما يمكن إلحاقهم بالقطاع الخاص والتفكير في وسائل لتحفيزهم وتشجيعهم بتقديم رواتب أعلى إلى الذين يتركون الخدمة الحكومية طواعية.
4. إعادة هيكلة الدوائر والوزارات المختلفة التي تؤدي إلى تضارب الصلاحيات والبطء الشديد في اتخاذ القرار وتخفيض أعدادها.
5. العمل بكل الطرق الممكنة لتجنب حصول ركود اقتصادي شامل وما قد يفرزه من آثار اجتماعية وسياسية غير محمودة.
6. الإصلاح الشامل والجذري للمنظومة التعليمية والتدريبية.
7. خطة للتحول الاقتصادي والحكومي الشاملين.
8. تحديد أولويات المشاريع التي يمكن تنفيذها خلال هذه الفترة ضمن الموارد المتاحة وبحيث تكون مدرة للدخل وموفرة لفرص العمل.
9. تنسيق أنشطة الوزارات والأجهزة الحكومية ذات الصِّلة وتحديد اختصاصاتها ومسؤوليتها بدقة وتلقي تقارير متابعة وشفافة ربع سنوية ملزمة خاضعة للمساءلة من الجهات الحكومية ووضع مقاييس كمية ونوعية لقياس العمل المنفذ.
10. المكننة التدريجية للأنشطة الاقتصادية والخدمية لتقليل أعداد القوى العاملة الوافدة وتقليل نزيف التحويلات للخارج.
11. وضع الاقتراحات لتعظيم الإيرادات العامة للدولة من قبل لجنة متخصصة مستقلة ومن ضمنها إلزام جميع المؤسسات والعقارات للتدقيق خلال فترة زمنية معينة تمهيدا لإخضاعها للنظام الضريبي وفرض مبالغ مقطوعة عليها خلال هذه الفترة.
12. إخضاع جميع الشركات الحكومية لنظام الحوكمة تمهيدا للخصخصة وسن قوانين مناسبة لحفظ حقوق الأقلية في جميع الشركات.
13. إعداد أحسن العناصر المهيئة لتنفيذ الخطط والسياسات.
14. تقوية "وحدة التنفيذ والمتابعة" والمحافظة على استقلاليتها لمراقبة عملية التنفيذ ورصد أية صعوبات أو انحرافات عن خط السير المرسوم ومتابعة الخطط والمشاكل الناتجة من التطبيق الفعلي.
وفي الأخير علينا أن نعي بعدم وجود حلول سحرية أو سهلة وما من سبيل إلا جلوس الجهات المعنية مع نخبة من أصحاب الخبرة المتخصصين ومنظمات المجتمع المدني لطرح المشاكل والحلول. ولا بد أن نتذكر أن عُمان تمتلك نخبة جيدة وكفوءة، ومن المحزن أن نرى كثيرين يصابون بالصدء وبرودة الحماس. ولست أعرف لماذا لا تلتقي الإمكانيات الكبيرة مع نخبة من الرجال والنساء المستعدين للعمل. وهذا الرصيد الإنساني من منجزات النهضة المباركة قادر أن يتحمل مسؤولية نقلة حضارية تستطيع أن تجعل عُمان في وضع يسمح لها بأن تتجاوز الصعوبات الحالية وأن تواكب العصر والعالم والعقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.