المملكة المتحدة والبريكست.. استعدادات غير مكتملة

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٤/يناير/٢٠١٧ ٠٤:٠٠ ص
المملكة المتحدة والبريكست.. استعدادات غير مكتملة

كريستوفر ديمبك

رغم ما يحفل به العام 2017 من المخاطر السياسية منذ بدايته، مثل الانتخابات الرئاسية الألمانية والانتخابات العامة في هولندا، إلا أن العيون تبقى متجهة إلى المملكة المتحدة ما بعد البريكست. ويتمثّل أهم آثار البريكست حتى الآن في انخفاض قيمة الجنيه الاسترليني الذي هبط بما يقارب 17 % أمام الدولار وإن أرادت المملكة المتحدة الخروج من الاتحاد الأوروبي بصورة تامة، فإن ذلك يقتضي منها تغيير هيكلية اقتصادها بشكل كامل بحلول 2019.
من المؤكد بأنّه من المبكر جداً الحديث عن نشوء فلسفة سياسية جديدة في المملكة المتحدة، غير أنّنا نستطيع أن نرى بأن تيريزا ماي أجرت تحليلاً شاملاً للأسباب التي أفضت إلى فوز مؤيدي الخروج من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء، وقد بدأت العمل على صياغة الحلول الممكنة التي سيكون عليها مواصلة تطويرها خلال الأشهر القليلة المقبلة. وعلى النقيض من سابقيها الذين كانوا يميلون إلى الحد من صلاحيات الدولة، فإن ماي ترى بأن الحكومة تعد حلاً وليست مشكلة، وعليها أن تسعى لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية:
أولا: تقليص التفاوت المالي والجغرافي الذي وصل إلى مستويات عالية جداً خلال الأعوام القليلة الفائتة، لدرجة أن حصة الـ1 % الأغنى في البلاد من الدخل نمت لتبلغ المستويات التي سجلتها قبل 80 عاماً (عند 14 %) مقابل أدنى نقطة تاريخية سجلتها عند 6 % خلال السبعينيات.
ثانيا: فرض متطلبات تنظيمية مالية تضمن السلامة وتوافر الأسس الراسخة بهدف الحد من السلوكيات الأنانية التي تسبّبت بالأزمة المالية العالمية.
أما الهدف الثالث فيتمثل في استخدام الإنفاق العام كوسادة وقائية لامتصاص الصدمات الداخلية والخارجية، بما فيها إجراءات خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.
ويبدو بأن رئيسة الوزراء ماي استوحت فلسفتها الاقتصادية مباشرة من تجارب رئيس الوزراء البريطاني الأسبق تشامبرلين والرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت في العشرينيات ومطلع الثلاثينيات، واللذين كانا يدعوان إلى رأسمالية أخلاقية في ما يمكن اعتباره امتداداً للذهنية "الأبوية" التي كانت سائدة في بريطانيا خلال القرن التاسع عشر. وتبدو سياسات تيريزا ماي واعدةً، غير أن الأوان ما زال باكراً جداً للحكم عليها بما أنها لم تنفذ أي شيء عملياً بعد، مع الإشارة إلى أن الخروج التام من الاتحاد الأوروبي يقتضي تغيير الهيكلية الاقتصادية للمملكة المتحدة بشكل كامل بحلول 2019 (وهو الموعد المعتمد للخروج)، وهي فترة قصيرة للغاية من دون أدنى شك، لذا يتجه الاقتصاد البريطاني الآن إلى أصعب فترة يعيشها منذ الحرب العالمية الثانية، وهناك ثلاثة تحديات رئيسية مباشرة سوف يواجهها خلال 2017 وهي: أولا ارتفاع مستوى التضخم وثانيا المخاوف المتعلقة بالرواتب أما التحدي الثالث فهو التنافسية على المحك.
وبالتالي يمكن الاستنتاج بأن المكاسب التي من المتوقع أن تجنيها الشركات البريطانية على صعيد تنافسية الأسعار كنتيجة لانخفاض الجنيه الاسترليني لن تكون حاسمة بالقدر الذي يتم افتراضه في معظم الأحيان. وبينما قد يشكّل خفض الضرائب المؤسسية حافزاً للشركات كي تستثمر على المدى القصير، غير أنّه سيكون على المملكة المتحدة تنفيذ خطة طموحة لإنعاش القطاع الصناعي في حال فشلها في التوصل إلى اتفاقية ارتباط مناسبة مع الاتحاد الأوروبي. وستؤدي هكذا خطة إلى إنفاق غير مضبوط في العجز، مما سيرفع عبء المديونية الذي سيتجسد على شكل توتر في أسواق السندات، وسيترافق ذلك بالتأكيد مع خفض التنصيف الائتماني للبلاد.
لا شك بأن المملكة المتحدة ستواجه خلال المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي تصلباً من طرف العديد من الدول، ولاسيما فرنسا. ويبدو من الوهلة الأولى بأن ميزان القوى يصب في صالح الاتحاد الأوروبي أكثر من المملكة المتحدة، حيث إن الصادرات الأوروبية إلى بريطانيا لا تشكل سوى 3 % من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، بينما تمثّل الصادرات البريطانية إلى دول الاتحاد 13 % من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أنه سيكون بإمكان تيريزا ماي التعويل على دول شرق ووسط أوروبا التي تواجه مشكلتين جديتين هذا الربع، تتعلق أولهما بارتفاع قيمة الدولار الأمريكي، أما المشكلة الثانية فهي تتعلق بالتأثير الاقتصادي المحتمل للبريكست على دول شرق ووسط أوروبا،
وبالمقابل، ثمة حالة من انعدام اليقين على المدى المتوسط حيال حضور الشركات البريطانية في المنطقة، ويمثل هذا الاعتماد الاقتصادي ميزة في صالح الحكومة البريطانية التي قد تستخدمه كورقة للحصول على دعم دول شرق ووسط أوروبا خلال عملية المفاوضات، وذلك مقابل الإبقاء على الاستثمارات البريطانية في هذه الدول. ومن الجدير بالذكر أن الدبلوماسية البريطانية لم تنجح في إبرام أي اتفاقية تجارية مهمة منذ العام 1973، ولم يعد لديها من يتمتعون بالكفاءات اللازمة لأداء مهمة كهذه، ولكن بالمقابل تجيد هذه الدبلوماسية استخدام سياسة "فرّق تسد"، مما يعني أن المملكة المتحدة قد تنجح في نهاية المطاف في الحصول على تنازلات تفوق التوقعات من الدول الأوروبية الحليفة في حال الخروج الكامل من الاتحاد، ولو أن هذا الاحتمال الأخير ما زال غير مؤكد حتى الآن.
رئيس قسم التحليلات الشاملة ’ساكسو بنك’