الشعبوية ومستقبل البنوك المركزية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٢/يناير/٢٠١٧ ٠٤:٠٥ ص
الشعبوية ومستقبل البنوك المركزية

كريسيا ريتشلين

في العام 2016 حطت الحركات الشعبوية في البلدان المتقدمة أنظارها على استقلال البنك المركزي. بالنسبة للقائد الشعبوي، يتمتع التكنوقراطيون غير المنتخبين، والذين يتحكمون في السياسات التي لها عواقب سياسية ومالية، بسلطة خطيرة.

في الولايات المتحدة، هُزم مشروع قانون يسعى لمراجعة المجلس الاحتياطي الاتحادي -وبالتالي إخضاع قرارات السياسة النقدية اليومية المعتادة لمراجعة الكونجرس- بفارق ضئيل في أوائل العام 2016. وخلال حملته الانتخابية، اتهم الرئيس المنتخب دونالد ترامب رئيس المجلس الاحتياطي الاتحادي جانيت يلين بتسييس قرار المجلس الاحتياطي الفيدرالي.
في أوروبا، تصاعد الصخب الشعبي ضد البيروقراطيين غير المنتخبين في الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي المستقل بشكل كبير. وفي المملكة المتحدة، طالب وزير الملية في حكومة الظل جون ماكدونيل «بالرقابة الديمقراطية» على أسعار الفائدة، مما يدل على أن السياسة النقدية لبنك إنجلترا قد خُصصت لمساعدة المؤسسات المالية.
ومع تقدم الحركات الشعبوية، وانضمامها لبعض الحكومات، فستتحول شكاويهم، عاجلًا أو آجلًا، إلى مقترحات السياسات التي من شأنها تغيير العلاقة بين البنوك المركزية، وأموال الخزينة، والمجالس التشريعية. السؤال المطروح للعام 2017 هو ما إذا كان من شأن ذلك أن يكون أمرًا جيدًا، أو ما إذا كان ينبغي حماية استقلال البنك المركزي ضد الهجوم الشعبوي المقبل.
من بين الانتقادات الموجهة ضد البنوك المركزية ادعاءات بأن التسهيل الكمي (QE) وانخفاض أسعار الفائدة لصالح الأغنياء، وسياسات ائتمانية خاصة لصالح البنوك، لا تساعد الاقتصاد، ويأتي التركيز الحاد على التضخم على حساب أهداف أخرى، مثل الحفاظ على العمالة الكاملة ومكافحة عدم المساواة.
وتأتي هذه الحجج من اليسار واليمين على حد سواء، وعبَّر الاقتصاديون المحافظون -مثل جون تايلور في الولايات المتحدة وأوتمار إيسنج في منطقة اليورو- عن مخاوفهم بأن البنوك المركزية قد تولت دورًا كبيرًا في إدارة الاقتصاد منذ الأزمة المالية للعام 2008، بحيث إن السياسات غير العادية مثل التيسير الكمي وتسهيلات القروض طويلة الأجل، والتدخل المتزايد لبعض البنوك المركزية في القطاع المالي، قد تعدت حدود الاختصاص الشرعي لصانعي السياسة النقدية.
لكن في حين يفضل الشعبويون تقليص الاستقلال السياسي والعملي للبنوك المركزية، وتوسيع نطاق ولايتها، يريد الاقتصاديون المحافظون العكس: الحفاظ على استقلال البنوك المركزية مع الحد من صلاحياتها ونطاق سياساتها.
نشأ مفهوم استقلال البنك المركزي في القرن التاسع عشر، وتطور بشكل مختلف في مناطق العملات المختلفة. لكن في الآونة الأخيرة في العام 1990، أصبح استقلال البنك المركزي مرتبطًا بأهداف التضخم. في حين أن بعض البنوك المركزية لديها مرونة أكثر من غيرها في إدارة استقرار الأسعار. فقد التزمت كلها بأهداف رقمية بشكل علني. دون هذه المساءلة (والاتصالات الشفافة)، سيكون من الصعب تبرير استقلالها.
ولد الاستهداف العددي لاستقرار الأسعار خلال مرحلة التضخم في السبعينيات، لكن البنوك المركزية ناضلت في الاتجاه المعاكس منذ العام 2008: انخفاض معدلات التضخم، والانكماش، عندما وصلت أسعار الفائدة قصيرة الأجل لأقل من الصفر. وعلى نطاق أوسع، قد تحدت الأزمة المالية الإطار الفكري وبعض المبادئ الأساسية التي وَجهت سابقًا البنوك المركزية القوية.
على سبيل المثال، لم يعد بوسعنا أن نعامل احتكاك سوق برأس المال على أنه مجرد مؤشر من الدرجة الثانية. ولا يمكننا أن نفترض أن كفاءة السوق ستوفر دائمًا تقريبًا عمليًا لأنشطة السوق، أو أن الكميات المالية -وخاصة حجم وهيكل ميزانيات البنوك المركزية- ليس لها صلة. نظرًا لإخفاقات السوق المنتشرة، تمكنت البنوك المركزية من التدخل كصانعة السوق والتأثير في تسيير الأزمات من خلال سياسات الميزانية العمومية الفعالة.
ونتيجة لذلك، تغير الإطار التشغيلي للبنوك المركزية. مع أدوات أخرى مثل تحكمها في التسهيل الكمي، انتقلت البنوك المركزية من كونها أداة واحدة، بهدف واحد، إلى أدوات متعددة وأهداف متعددة. وقد تسارع هذا التغيير بسبب الأزمة المالية، لكن يمكننا توقع أن البنوك المركزية ستواصل استخدام ميزانياتها بشكل استباقي حتى في «الأوقات العادية»، وذلك لمواجهة الاحتكاك أو التصدي لضغوط السيولة المالية.
هذا النموذج التشغيلي الجديد يمكن أن يُفسر كوسيلة لضمان استقرار الأسعار، لكن عندما يتم تكليف البنوك المركزية أيضًا بالحفاظ على الاستقرار المالي، ستصبح مسؤولية البنك المركزي واستقلاله في خطر. وعلاوة على ذلك، في بيئة التضخم المنخفض المثقلة بالديون، قد لا تكون البنوك المركزية قادرة على تحقيق استقرار الأسعار ما لم تنسق مع السلطات المالية.
المديرة السابقة للأبحاث في البنك المركزي الأوروبي وأستاذة الاقتصاد في مدرسة لندن للأعمال