عندما نوزع استثماراتنا بملئ إرادتنا على عدة أنشطة قد يزيد المردود الفعلي أو ينقص ، ولكن من المؤكد أن هذا التنوع يقلل من المخاطر عند حدوث تغيرات سلبية في موقع أو زمن معين . والخطر يكمن في أننا لو اعتمدنا على مصدر واحد للدخل ، حتى وإن كان ممتازاً لفترة من الزمن ، قد نتعرض لأزمات حادة عندما يحدث نقص في إنتاج ذلك المصدر أو هبوط في أسعاره بحكم العرض والطلب . لذلك نرى أن الحكيم من الأفراد ، عندما يصبح متمكناً ، نراه يعمل في حانوته وفي الوقت نفسه يؤجر الدور العلوي ويهتم ببستانه قرب البيت . والشركات وإن كان عملها الرئيس في قطاع ما نراها تستثمر في العقار أو الأسهم في سوق المال أو في السياحة والصناعة . والحكومات أيضا تسعى لتنويع استثماراتها وزيادة واستقرار دخلها المباشر وغير المباشر . والتنويع بمعناه الإقتصادي يكون عادة في قطاعات مختلفة لاتتعلق ولاتتأثر ببعضها البعض كي تنجح فعلاً عملية إدارة المخاطر . فالمصافي التي تكرر النفط والبتروكيماويات والغاز والمال والصناعات البلاستيكية والأسمدة كلها تعتمد بدرجات متفاوتة على النفط والغاز ومشتقاتهما . التنويع الإقتصادي الحقيقي والفعال هو الذي يرتكز إذاً على الصناعات المختلفة والزراعة المعروفة والسياحة وصيد الأسماك والخدمات من لوجستية وصحية وتربوية وثقافية . منذ أن وضعت الخطة الخمسية الأولى والتوصيات تتكلم عن ضرورة التنويع الإقتصادي . ولايزال خطابنا اليوم هو نفسه منذ ذلك الحين. ألم نحقق شيئاً بهذا الصدد خلال أربعة عقود ونصف من الزمن ؟ في الواقع لقد حققنا الكثير ، إن كان عن طريق الاستثمارات المباشرة من قبل الحكومة أو الشراكة مع المستثمرين أو عن طريق مبادرات ومشاريع القطاع الخاص أو حتى الأفراد.
في الصناعات الأولية كما في الصناعات التحويلية قامت مصانع صهر الحديد والنحاس والألمنيوم ومصانع إنتاج الإسمنت والأنابيب والمواد الغذائية والأدوية والأسمدة . وفي البتروكيماويات بنيت المصافي ومصانع الميثانول والعطريات والمواد البلاستيكية وأنشأت المناطق الصناعية والمناطق الحرة لتشجيع التجارة والصناعة . وفي البحر ومايسمى بالإقتصاد الأزرق أي المتعلق بالمياه والمحيطات ، لدينا اليوم اسطول من السفن العملاقة لتصدير المنتجات الوطنية ، وأحواض جافة لصيانة السفن وتصليحها وتعديل أغراض استعمالها . وأسسنا معهداً للدراسات البحرية والأبحاث في المحيطات واستضفنا الألعاب الشاطئية ودعمنا ابحار عمان للرياضات البحرية التي رفعت ألوان عمان عالياً في المباريات الدولية . كذلك بنينا موانئ الصيد ومراكز تجميع المحاصيل الزراعية وباشرنا بالإستزراع السمكي ونهضنا بالسياحة وقامت الفنادق والمنتجعات ودار الأوبرا . وتقدمنا بالتجارة فوقعنا اتفاقيات ثنائية ودولية مع البلدان الصديقة . وتعددت الجامعات ومؤسسات التعليم عامة والعليا خاصة . وفي مجال الخدمات أسسنا شركة الطيران الوطنية ، والنقل العام، والتأمين ، وسوق المال والمستشفيات العامة والخاصة للرعاية الصحية . وشجعنا الحرف التقليدية إلى ماهنالك من تنويع وتقدم في الإتصالات والطاقة وتحلية المياه، والسدود لتغذية المياه الجوفية وصولاً إلى المعلوماتية ومراكز الأبحاث . مانريد قوله أنه علينا الإعتراف بأن ما أنجز ليس بالقليل من ناحية التنويع الإقتصادي وإن كان بالإمكان تحقيق المزيد . إذاً أين تقع الإشكالية ؟
في رأيي المتواضع واذا أعدنا النظر في التشخيص قد لاتكون المسألة في قلة تعدد النشاطات والقطاعات ، بل بالعكس ، نقول أنه بالنسبة لدولة فتية اقتصادياً مثلنا قد نكون تمادينا بالتنويع حتى ضعف التركيز وتبعثرت الإمكانيات وحان وقت التجميع والمراجعة ولو لفترة من الزمن يتم خلالها تقييم ماأنجزناه والمردود الفعلي منه وسبل تحسين الأداء وزيادة الدخل ان للحكومة أو للقطاع الخاص . والمطلوب اليوم اذاً ليس بالضرورة زيادة التنويع الإقتصادي الحالي بقدر ماهو إدارة ذلك التنويع قبل الإنتقال إلى مرحلة مقبلة من النمو والتطور . ومع انخفاض سعر النفط قد يكون هذا هو الوقت المناسب لتلك العملية . نلاحظ مثلاً أن أكثرية ماسردناه من مشاريع قامت بمجهود حكومي غاب عنه القطاع الخاص بينما استراتيجية الرؤى 2020 و 2040 والخطط الخمسية تعتمد مبدئياً على شراكة حقيقية بين القطاعين . من المعلوم والمسلم به أن القطاع الخاص يسعى دائماً إلى تحقيق المزيد من الربح عن طريق تقليص التكاليف وزيادة الإنتاج والإبتكار والتسويق الهادف والعلمي والوصول إلى التنافسية العالمية . من الضروري اذاً إشراك القطاع الخاص في المشاريع القائمة حالياً عن طريق الخصخصة الكاملة والجزئية والشراكة الفعلية لتلك المشاريع (Public Private Partnership ) وطرح الأسهم في الأسواق المالية . ويبقى دور الحكومة جوهرياً في وضع وإعلان الرؤى الواضحة والمركزة (السياحة مثلاً) وتوفير الوسائل والتشريعات اللازمة لتحفيز اشتراك القطاع الخاص في عملية التنويع الإقتصادي القائم حالياً والمستقبلي . إذا نما القطاع الخاص وازدهر الإقتصاد ، يزداد دخل الحكومة المتنوع ويقلل اعتمادها على سلعة واحدة.
المطلوب اليوم اذاً قد لايكون بالضرورة البحث في قطاعات جديدة نستثمر فيها لتحقيق التنويع الإقتصادي بل في إعادة النظر بطريقة إدارتنا للمشاريع الحالية واتخاذ اجراءات للتقيم والتجميع بدل التنويع .