«نشيج حبر» الأستاذ

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١٩/ديسمبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٠ ص
«نشيج حبر» الأستاذ

محمد بن سيف الرحبي

عشت في مرحلة ما من الصحافة العمانية تجربة حضور لافت لثلاثة أسماء أساسية فيها، يمسكون بأشرعة ثلاث صحف محلية، كرموز لها، لا يمكن تخيّل هذه «الثلاث» بدونهم، فليس سهلاً أن نتصور صحيفة عمان يغيب عنها «المايسترو» حمود بن سالم السيابي، ولا «الشبيبة» برحيل «المؤسس» عيسى بن محمد الزدجالي، ولا الوطن بدون «قبطانها» محمد بن سليمان الطائي.

رحل أول الأساتذة عن الصحيفة التي قضى فيها نحو ثلاثة عقود من عمره يسهر معها حتى مطلع الفجر، ورحل الثاني تاركا الصحيفة والحياة مترجّلا عن مشوار ثري في مستويات الحياة، الإنساني منها على وجه الخصوص، بينما بقي الثالث صامداً، سائلين للراحل الأستاذ عيسى الرحمة والمغفرة، ولأستاذنا حمود العافية والعودة من رحلة العلاج بحبر جديد يسيل من ذهب أصابعه، وللأستاذ «أبو سليمان» أن يبارك الله في عمره.

مثّل لي كتاب الأستاذ حمود السيابي نشيج الحبر انعطافة مهمة في توثيق المسار الصحفي، عبر مجموعة من المقالات التي جمعتها «المراثي» وهو ينقش بحبر فكره نثريات أجمل من عشـــرات القصائد من التصنع في رثاء راحل، إذ يعطــي الأستاذ نفســـاً جديداً للغــة وهـــو يكتب عن رحيل تصـــوّره الكلمات ليس كأي رحيل، وعن فقد يلوح عبر غمام «السبك اللغوي» قصيــدة جميلة مهما كانت فجيعتنا بذلك الفقيد.

بين مراثي مقالات «نشيج الحبر» يكتب الأستاذ حمود عن قامات رحلت عن بلاط صاحبة الجلالة، الصحافة، بينهم المرحوم الأستاذ عيسى بن محمد الزدجالي، فكان مقاله «الأستاذ مسوّي خلوه»، حيث تأتي كلمات «أبو فيصل» كما يعبر دائما مغموسة في حمدة الفلج، تشير إلى عمق العلاقة التي جمعتهما عبر سنوات طوال من التجوال الصحفي «لقد قدر لي أن أصحبك في مهنة المتاعب فلم أجد فيك رئيس التحرير الذي يكمل نقصه بطول سيجـــاره، ولم أعش فيك ادعاءات رئيس التحــرير بأن الحاكم الفلاني صديقه، والرئيس العلاني نديمه».. إلى أن يقول: «بـــل رأيت فيك رئيس التحرير الإنسان الذي يسمو في العيون بتوازنه مع نفسه لا بطول سيجاره، وبصدقه مع قرائه لا بادعاءاته الكاذبة بأنه يعلم دبيب النمل».

يكتب الصحفي القدير عن زملاء مهنة فارقوا الحياة، أحمد الحسني «لماذا تركت الجريدة وحيدة» ويستعيد سنوات العمر في صحيفته التي غادرها من موقعه كرئيس تحرير إلى عضوية مجلس الدولة لكن لا شيء يعوضه عن فقدان بيته الأثير، حيث أرقى المناصب أن يكون في مكتبه يجتمع الصحفيين والصفحات إليه، يضع عنوانا هنا ويغيّر من صورة هناك، ويفجّر باللغة مقالا على الصفحة الأولى، ويسير بابتسامة «المربّي» وهو يرى أولاده يكبرون، حيث يعيش بينهم أكثر مما يفعل مع أولاده في البيت.
عشرات المقالات المتناثرة التي جمعها الأستاذ أخيرا، لتكون شهادة على زمن صحفي مرّ على الذاكرة الوطنية العمانية المعاصرة، قلم لا يتكرر، وربما هي مرحلة على درجة من الأهمية الصحفية، حيث «جيل الأساتذة» يرصفون ممرات في مسار صحفي استوى بهم ومعهم شوارع ممهدة سار عليها، وسيسير، من لا يدرك ذلك الزمن «الجميل» بما يستدعي توثيقاً للمرحلة.. أصبح مهماً.