انخفاض أسعار النفط: مصائب قوم عنـد قـوم فـوائد

مؤشر الثلاثاء ٠٢/فبراير/٢٠١٦ ٢٣:٥٥ م

مسقط -ش
لم يكن أكثر المتفائلين في بعض الدول ليتوقع انخفاض أسعار الوقود بهذا الشكل السريع، حتى وصل خلال أشهر قليلة إلى أدنى مستوى له في 12 عاماً. الكثير من الدول التي تعتمد على النفط كمدخول أساسي لها، رأت في الأمر كارثة، انطلاقاً من السلطنة وصولاً إلى الجزائر ونيجيريا مروراً بدول الخليج كافة، غير أن دولاً أخرى وجدت في الأمر فرصة لتقليص التضخم ودفع عجلة الإنتاج.

إنه انهيار وليس مجرد تراجع، هكذا رأت معظم الدول المنتجة للنفط هبوط الأسعار غير المسبوق، فبعد الفائض الذي سجلته في سنوات العز، عندما وصل سعر البرميل الخام إلى نحو 140 دولاراً أمريكياً، ها هي تسجل عجزاً في ميزانياتها وتضطر إلى الاستدانة لتغطية الفجوات العميقة بين حجم الإيرادات وحجم الإنفاق، على عكس دول أخرى ترى في الأمر فرصة لتخفيف أكلافها أو تقليص عجزها أو حتى استعادة حصتها من السوق التي فقدتها بعد الاكتشافات النفطية الكبيرة في الولايات المتحدة وسواحل البحر المتوسط.

شتاء دافئ

لم تر أوروبا في انخفاض أسعار النفط مشكلة، رغم تأثرها بالانكماش الكبير الذي سببته تلك الأسعار لدول ذات حجم اقتصادي كبير، كالصين والبرازيل أو الأسواق الآسيوية الناشئة، غير أن المواطن الأوروبي الذي يضع ميزانية كبيرة على الوقود، لا سيما خلال فصل الشتاء، رأى في الأسعار الجديدة دفئاً طال انتظاره.
أسعار الكثير من المنتجات المستوردة انخفض تأثراً بانخفاض أسعار النقل، ووفرة العرض أمام تدني الطلب. ورغم من أن المواطنين الأوروبيين لا يتأثرون بشكل مباشر بتقلبات اليورو، كون مداخيلهم الأساسية هي بالعملة ذاتها، غير أن انخفاض أسعار النفط وتأثيره على سعر صرف الدولار الذي بات قريباً من سعر اليورو، ساهم في تنشيط أسواق أوروبية وزيادة القدرة التنافسية، مما انعكس مباشرة على الدورة الاقتصادية. وتظهر أرقام الاتحاد الأوروبي أن السلع الأوروبية التي تراجع تصديرها لصالح سلع أمريكية، عادت لتدخل الأسواق من جديد، وتمكنت صناعة السيارات الأوروبية، بعد سنوات عجاف، من استعادة حصة وازنة من السوق العالمية.

الدفاع عن حصة الأسواق

لا يخفى على أحد أن معظم الدول المنتجة للنفط ترى في الأمر كارثة، لكن رغم ذلك تبرز استراتيجية مغايرة لبعض الدول النفطية التي تحاول قدر المستطاع تحقيق مكاسب بعيدة المدى. ومن هنا نجد أن المملكة العربية السعودية ما زالت غير متحمسة لخفض إنتاجها مما يساهم في ارتفاع أسعار النفط. وذلك لأن للمملكة حسابات استراتيجية تتخطى مشكلة الأسعار الحالية.

وتواجه المملكة مشكلة أساسية وهي التهديد بخسارة حصتها الوازنة من السوق النفطية، وذلك بعد استغناء الولايات المتحدة عن النفط العالمي واكتشافها كميات هائلة من النفط الصخري في أراضيها. غير أن النفط الصخري يعاني من مشكلتين أساسيتين تحاول المملكة الاستفادة منهما، الأولى هي تكلفة استخراجه المرتفعة رغم التقنيات الحديثة المعتمدة، على عكس النفط السعودي الذي يعد استخراجه من الأوفر في العالم، إذ تبلغ تكلفة استخراج البرميل الواحد في بعض الحقول بين 4 و5 دولارات فقط (من دون احتساب النقل والتشغيل والتسويق)، أما المشكلة الثانية فهي الاعتراضات القوية من جماعات بيئية ترى أن تواجد النفط في المناطق الباردة وعلى مقربة من القطب الشمالي، ينذر بكارثة بيئية كبيرة، وهذه الاعتراضات لم تنحصر بالداخل الأميركي بل بات صداها مسموعاً في جميع المحافل البيئية الدولية.

لذا رأت السعودية في أسعار النفط الحالية فرصة لتثبيت حصتها وتخفيف الاعتماد على النفط الصخري الذي يغدو غير مربح في المدى المنظور، والأسعار المنخفضة تقوي وجهة نظر البيئيين بسبب تراجع الجدوى الاقتصادية من استخراج كميات كبيرة.

والأمر ذاته ينطبق على النفط (والغاز) المكتشف في سواحل المتوسط تحت المياه، إذ تراجعت اندفاعة الشركات المنقبة لا سيما بسبب وفرة العرض وقلة الطلب.
وبسبب التأثير السلبي لانخفاض أسعار النفط على قيمة وارداتها، فهي تحاول أن تعوض خسائرها بزيادة الإنتاج، معتمدة كذلك على الاحتياط النقدي الكبير الذي راكمته في سنوات الارتفاع غير المنطقي لأسعار النفط. كما ترى السعودية أن أسعار النفط هذه تزيد الضغوط على بعض الدول مثل روسيا، التي تحاول أن تزيد حصتها من الأسواق الآسيوية بعد المشكلات التي تواجهها مع أوروبا.
لهذا ما زالت السعودية غير متحمسة للتعاون في مجال خفض الإنتاج، إلا إذا كان ضمن خطة شاملة تلتزم بها دول من داخل منظمة أوبك ومن خارجها، لأن الحفاظ على حصة نفطها من السوق أهم من الناحية الاستراتيجية من رفع بسيط لأسعار النفط. لذلك فإن النداء الذي أطلقته السلطنة ممثلة بمعالي د. محمد الرمحي، وزير النفط والغاز، من الممكن أن يشكل حلاً جذرياً، لأنه يقوم على دعوة الدول المنتجة للنفط جميعها، بخفض الإنتاج بالنسبة ذاتها، ما يعني حفاظ كل دولة على حصتها.

العودة إلى الأسواق

ومن ناحيتها تحاول إيران الاستفادة من رفع العقوبات الاقتصادية عليها لتنال حصة أكبر من السوق، وهي بحاجة إلى أسعار نفط تشجيعية، لجذب المستثمرين الذي ينوون الدخول في اقتصادها، لا سيما في مجالات الصناعة والبنى الأساسية. ورغم الفائض الكبير في العرض على النفط أعلنت إيران زيادة إنتاجها 20 في المئة في المرحلة الأولى. لكن الإنتاج المحدود لإيران ليس ذا تأثير كبير على السوق النفطية، فتسفيد من زيادة الإنتاج من دون أن تؤثر كثيراً على انخفاض الأسعار، ومن ناحية ثانية ترى إيران بأن خطوتها بزيادة الإنتاج تدفع بعض الدول المترددة إلى التحاور معها، ليبدأ الحوار من النفط فينتقل إلى سائر القضايا الخلافية الأخرى.

تخفيض العجز

ومن جهة أخرى، تعاني بعض الدول غير المنتجة للنفط والتي تعاني من مشكلات اقتصادية كبيرة الاستفادة قدر المستطاع من أسعار النفط، فدول مثل لبنان واليونان وعدد كبير من الدول الأفريقية، ترى في انخفاض أسعار النفط متنفساً اقتصادياً، إذ سببت الأسعار المرتفعة للنفط في المراحل السابقة عجزاً كبيراً في ميزانياتها، بسبب حاجتها للنفط في تأمين الطاقة والمياه لشعوبها، وهي ليست لديها بدائل إنتاجية قادرة على مقارعة الأسعار المرتفعة، ولكونها دول استهلاكية بطبعها وتعتمد على استيراد معظم موادها الغذائية والاستهلاكية، فإن انخفاض أسعار النفط كان ضرورياً لخفض التضخم الكبير الذي تعاني منه، فلبنان مثلاً اضطر لإقرار زيادة على بدلات التنقل للموظفين بسبب أسعار البنزين المرتفعة، واضطر إلى الاستدانة من جديد بكميات تتخطى قدراته لتغطية العجز في إنتاج الكهرباء.

فرصة للتنمية

صحيح أن السلطنة كانت من الدول الأكثر تأثراً بانخفاض أسعار النفط، وسجلت تراجعاً بنسبة 14 % من الناتج المحلي في الربع الثالث من العام الفائت، لكن رغم ذلك السلطنة لم تستسلم للمشكلة القائمة بل قررت المضي بخطة متكاملة وجذرية لتنويع الاقتصاد وتقليص الاعتماد على النفط، وهذا ما ظهر جلياً في الخطة الخمسية التاسعة، وسعت لتنشيط الاستثمارات في مجموعة من القطاعات القادرة على تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة.

لذلك رغم الضرر المباشر الذي أصاب السلطنة من تراجع أسعار النفط، ثمة فائدة غير مباشرة وعلى المدى البعيد، وهي أن السلطنة، ومثلها الكثير من الدول، تحاول استغلال الموقف لإيجاد حل جذري للاقتصاد. وها هي دول الخليج تقرر المضي في حزم ضرائبية جديدة، ومن بينها الضريبة على القيمة المضافة، فضلاً عن مضي أكثر من دولة، ومن بينها السلطنة، في رفع الدعم عن الوقود وتخفيض الإنفاق.
لا يمكن اعتبار السلطنة مستفيدة من اسعار النفط الهابطة، لكنها تحاول ان تخفّض الأضرار واستغلال الموقف لمعالجة اي مشكلة متشابهة في المستقبل. اليوم نحن أمام مفترق طرق، أسعار النفط ما زالت غير مستقرة، بسبب عدم وضوح الرؤية حول إمكانية التوصل إلى اتفاق لخفض الإنتاج داخل اوبك وخارجها. وحتى جلاء الصورة، تحاول بعض الدول التعايش مع مصائبها فيما ترى دول أخرى في الأمر فوائد.