مسقط-العمانية
لا يكاد يخلو حوار أجري مع الشاعر الكبير سيف الرحبي إلا ويُطرح عليه سؤال الطفولة كما يطرح عليه سؤال الغربة والصحراء والموت والألم، فهي ثيمات حاضرة في نصه الشعري بكثرة، بل هي المشكلة الكبرى إن كان ثمة دراسة إحصائية يمكن أن ترصد هذه الثيمات كما فعلت دراسة للدكتور حميد الحجري والموسومة بـ"حفر في مخيلة الذئب".
ويعد الرحبي الآن لإصدار جديد حول مرحلة الطفولة بكل تجلياتها الزمانية والمكانية كما أشار إلى ذلك في حوار اجرته معه جريدة العربي الجديد مؤخرا وتحدث فيه عن ثيمة الطفولة النائية في الذاكرة.
ويقول سيف الرحبي في ذلك الحوار "أحاول أن أفتش في ذلك المكان الراشح بالنأي والغموض، في زوايا الذاكرة المضببة والمعتمة، وطبعًا الذاكرة بعد تقادم الزمن والأحداث والمآسي، من المؤكد تحتاج إلى تركيز، وإلى نوع من الحفر القاسي، والصعب في أرضية أضحت بعيدة جدًا وما يرشح من تلك الفترة، بأن طفولتي كانت موزعة، بين قرية سرور في الداخل الحجري من عُمان، وبين البندر، التي هي مطرح، أو مسقط، وهي بلدة بحرية، ربما تتسم بسمات مختلفة، من ناحية تنوعها اللغوي، والإثني، عن قرية سرور، أو سمائل، التي هي ذات نمط قبلي شبه موحد."
ويستطرد سيف الرحبي المشغول كثيرا بتفاصيل الزمان والمكان ومدى تأثير الأول على الكائن البشري الضعيف أمام جبروت الزمن "تلك الطفولة الجبلية البعيدة، كأنها كانت حرّة إلى حدّ بعيد، رغم منظومة القيود، القبلية والدينية. وكانت حرة في ذلك الفضاء، المترامي، والشاسع، من أودية، وجبال. وإذا ابتعدتُ قليلًا، تكونُ الصحارى، والبحار؛ هذه السعة المكانية، أعطت للطفولةِ حرية الحركة، وحرية المخيلة، بأن تسرح في سهوب شاسعة وبعيدة.. وفي ظلّ غياب أدوات اللعب والتسلية في تلك الفترة، التي عادةً ما تلهي الأطفال عن الشقاوة والعدوانية؛ فإن العدوانية في تلك الفترة كانت متفجّرة ومندفعة، في هذا الاتجاه، كثيرة الاصطدام، والاشتباك، مع صبية آخرين.. المقابر، والجبال، والصخور المسننة، وبرك الأودية الصغيرة، كانت هي ملاعبنا؛ فالبلاد كانت أكثر خصوبة، وقاحلةً أقل من الوقت الراهن، ومجمل هذه العناصر، اشتغلتُ عليها نسبيًا في أدبي، وأحاول أيضًا تركيزها، في نوع من سيرة المكان والطفولة، أصدرتُ جزءًا في التسعينيات تفتشُ في هذه المنطقة العصية نوعًا ما، باسم "منازل الخطوة الأولى"، والآن بصدد تكملة ذلك الجزء، عبر العودة إلى سيرة الطفولة، والمكان".
وفي حوار آخر من حوارات الرحبي التي تحفل بها الصحف والمجلات الثقافية يقول متحدثا عن وطأة الزمن على الكائن البشري: " هذا الشعور المأساوي بالوجود، بثقل الحياة والزمن، هو قدر المنفصل عن قيم الجماعة والقطيع، ويمكن الزعم انني انفصلت عن هذه القيم بشكل مبكر مثل الكثير من افراد جيلي بأماكن مختلفة، وهناك ايضا الاحساس الوجودي المدمر بمرور الزمن ومأساة هذا العبور، وهذا التغيير وهذا المحو والمحق بحق حلم في الكائن او البشري، وهذا الشعور ربما يختلف من شخص الى آخر اتذكر دائما فضاءات المكان العماني الذي ولدت فيه وقصة الشطر الاول من طفولتي في منحدراته الصخرية والعنيفة. إن تلك الاضاءات والتضاريس في جبالها الجرداء الشاسعة والموحشة ربما تكون من المنابع الأساسية لهذا الشعور بمرارة الكائن واغترابه وانسحاقه امام الزمن، وتذكرني ايضا بقدرة هذا الكائن وجبروته على الصمود رغم الطبيعة القاسية والظروف الصعبة، وفي قدرته ايضا على العيش والانتاج والتكيف بهكذا ظروف التي تذكر بقدرة الانسان على الابداع عكس ظروفه الصعبة وغير المواتية".
وعندما سألته جريدة القدس العربي ذات مرة عن غربته التي يعيشها مع نفسه رغم وجوده في وطنه قال الرحبي: "يمكن أن نأخذ الغربة على محمل أبعاد متعددة، منها البعد الوجودي والاجتماعي والتاريخي، كما تحدث أدباء قديما (أبوالعلاء المعري والتوحيدي)، وحديثاً حيث تتسع رقعة الأسماء، وتفيض على العدّ والإحصاء. أصبحت الغربة في أبعادها تخترق الكيان البشري (الشاعر والكاتب خاصة) وتطوّح به الى أصقاع لا عودة منها.
ويقول الرحبي إن أبعاد هذه الغربة في تشكيلها كائن المنفى، سواء كان داخل الوطن أو خارجه يغذيها نبع تلك الجراح المتدفق منذ الانفصال الأول عن الحقيقة الأزليّة والطبيعة الأولى، "حيث الكائن مُلقى على قارعة العالم" وفي خضّم الصحراء، صحراء (منيف) والمستباحة الممسوحة وليس صحراء (الكوني) الطيبة الخالدة. مُلقى تحت بطش متاهته، التي لا تعرف إذا ستنتهي بالموت، أم تبدأ رحلة أخرى مجهولة وغامضة، لكن لا أظن أنها ستكون أكثر مشقة من تلك التي خبرها الإنسان على هذه الأرض. والإنسان العربي خاصة، الذي تتفاقم أبعاد غربته وتحتدم كما تتبدّى في نصه وحياته.
باختصار لا شيء في "التاريخ" لا يحملنا على الغربة والتيه عدا ومضات عابرة.. وإذا كانت هذه المخلوقة (الغربة) والخالقة، تأخذ دلالة شقاء على صعيد الحياة الواقعيّة، فهي على صعيد الكتابة تغذيها بوهج روحي فريد.. ليس هناك كتابة عبر التاريخ قديما وحديثا، إلا وهي مضرّجة ومسكونة بها. ربما لو كنتُ ليس في آخر العام لتخففت من ثقل هذه العبارات الآنفة، وأخذت الغربة وغيرها على محمل الطرافة".
ويرى الرحبي أن العزلة قدر الكائن مهما كان انخراطه، لا أقول في المجتمع، وإنما في منظومة اجتماعية معينة، من الصداقات، والعلاقات، والعواطف، والأهواء الشخصية، يظلّ محكومًا بالعزلة، والكتابة في النهاية هي نتيجة هذه العزلة، والإنجاز الإبداعي نتيجة لها، والكائن البشري، قادم من عزلة معينة في الرحم، وذاهب إلى عزلته الأخيرة، وما بينهما هذا المسرح المليء بأحداث الحياة، المكتظة بالعبث، والصخب، والعنف، والحركة.
والعزلة بهذا المعنى لا تتناقض مع الاجتماع البشري؛ ليس هنالك انغلاق بهذا المعنى، أي انقطاع نهائي، فهنالك عزلة، وهناك تأمّل، في الوجود، والنصوص، والكتابات، وهنالك هذا الاجتماع، خاصّة مع الأصدقاء، والأخوة في المجال، الذي نشأنا فيه منذ البداية، ليس في عُمان فقط، وإنما في أماكن عربية، وغير عربية كثيرة.
ويقول: يجرفني الحنين دائمًا إلى تلك المطارح، والوجوه الغائبة، سواء في القاهرة، أو الشام، أو بيروت، أو باريس، وفي عواصم وأماكن كثيرة مترحلة باستمرار، لذلك أنا أحتفي كثيرًا بتلك الوجوه الصديقة، الغائبة، في نصوصي؛ إذ ثمة هاجس ملح في هذا المجال.
وعن ثيمة الموت التي تحضر في نصوص الرحبي يقول الشاعر سيف: "البذرة النفسية والروحية، والتي هي مفتوحة وجوديًا على هاجس الموت أكثر من غيرها، فهاجس الموت والفناء والعدم، موجود ربما لدى كل الكائنات البشرية، موجود عند كل الشعراء والأدباء، لكن يعبّر عنه بإلحاحات مختلفة، فيأتي لدى هذا أكثر من ذاك. ربما يلحُ هذا الهاجس عليَّ كثيرًا، فيتجلّى ذلك في الكتابة، والسلوك، وهذا القلق الوجودي العاصف، وما نعيشه وجدانيًا، ومكانيًا في هذه المنطقة، من إبادات جماعية، وغيابات، ورعب وجودي، يدفع بهذا الهاجس، إلى مشارف انتحارية مأساوية أكثر، لكن في النهاية الجذر، والبذرة موجودة بالأصل، في الأعماق، تنضجها المعرفة، والأحداث المأساوية الجارية، وأعتقد أن هاجس الموت والفناء إذا أُحسن استثماره إبداعيًا ربما يكون معينًا لا ينضب لهذه الكتابة، على الرغم من تناقض أن الإبداع يحتفي بالحياة، لكنه يحتفي بالحياة عبر هاجس الموت.
ويضيف في حواره مع جريدة العربي الجديد "تتقاطع الكتابات في المرحلة الحالية ضمن منطقة حدية، وخطرة، في العالم العربي، مليئة بالسوداوية، واليأس، وانعدام الأمل، وانسداد الأفق، وهذا الواقع التراجيدي الذي تعيشه الأمكنة والمناطق العربية لا بدّ أن يكون ثيمة أساسية للكتابة والإبداع.
التبشير اليوم بأي شيء مستقبلي، بأي يوتوبيا، أصبح ضربًا من السذاجة، أمام هذا الواقع الجهم الذي تهيمن عليه الإبادات، والتهجير، والإجرام، وهذا الموت في المحيطات، وفي الأماكن المجهولة للأطفال، والنساء، والكبار، من هنا لا نتوقف أمام سوداوية هذا النص.
ويتحدث سيف الرحبي عن قريته سرور والتي نشأ فيها مطلع طفولته المبكرة "قريتي في عُمان، ليست بعيدة عن مشارف الربع الخالي، هذه الصحراء المروّعة، التي وصفها رحالة إنجليزي في مطلع القرن العشرين "صحراء الصحارى"، أو "أمّ الصحارى"، لكن بالنسبة لي مكانيًا، ورمزيًا، تتحوًل في الكتابة والنص إلى صحراء كونية، ورمزٍ وجودي للوحشة والعدم، فالصحراء هنا ببعدها الواقعي والرمزي ظلّت ملحة في النص، أكثر من العناصر الجغرافية، والجيولوجية الأخرى التي تزخر بها عمان كالجبال، والبحار.