بؤرة "عمونا"

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٩/نوفمبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٥ ص
بؤرة "عمونا"

غازي السعدي

أحدثت بؤرة "عمونا" الاستيطانية صراعا إسرائيليا داخليا، وأزمة كادت تؤدي إلى سقوط حكومة اليمين الإسرائيلي، رافقتها ردود فعل إسرائيلية ضد تنفيذ قرار المحكمة العليا بهدمها، وأخرى تؤيد تنفيذ قرار المحكمة العليا القاضي بتحديد تاريخ 25-12-2016 كآخر موعد لهدمها ، وتحتل هذه القضية نقاشا واسع النطاق في وسائل الإعلام الإسرائيلية والكنيست، وداخل الحكومة وبين الأحزاب لمنع هدم هذه البؤرة التي أقامها "فتيان التلال" المتطرفون عام 1995 على أرض تقع شرق رام الله، هذه الأراضي هي ملكية فلسطينية خاصة لقرى سلوان، الطيبة، عين يبرود وقرى أخرى، قامت جمعية حقوقية إسرائيلية تحمل اسم "يش دين" وترجمتها للعربية "يوجد قانون" بتبني القضية والمطالبة بهدم هذه البؤرة الاستيطانية، وإعادة الأراضي لأصحابها، ومع أن القانون الدولي يعتبر جميع المستوطنات المقامة على الأراضي الفلسطينية غير قانونية، وينطبق هذا على جميع الأراضي في الضفة الغربية، إلا أن حكومات إسرائيل المتعاقبة تجاوزت القوانين والشرعية الدولية، وبعد مماطلات كثيرة من قبل المستوطنين الرافضين لإخلائها، أصدرت المحكمة حكمها بإجماع القضاة، بهدم هذه البؤرة بمدة لا تتجاوز 25 من يناير المقبل.
لقد بدأ السرطان الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية، بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967 من قبل إسرائيل، ففي البداية، جاءت خطة الوزير "يغئال الون"، والمعروفة بـخطة "ألون"، بإقامة مستوطنات مؤقتة في المواقع الإستراتيجية، وعلى الهضاب، بذريعة الأمن، ثم امتد هذا السرطان الاستيطاني، رغم قرارات الأمم المتحدة بإيقافه لمعارضته مع القانون الدولي، لكن إسرائيل لم تستجب لهذه القرارات، وأخذت بالتوسع التدريجي، ثم زيادة المباني بحجة بناء عيادات طبية، ومدارس والتوسع الإنجابي، واستمرت بالتوسع والاحتيال على القوانين الدولية، ففي عام 2004 تعهدت الحكومة الإسرائيلية في عهد "أرئيل شارون"، بإزالة البؤر الاستيطانية، مع أن شارون هو الذي أطلق دعوته لفتيان التلال بإقامة هذه البؤر، تحت شعار أطلقه أن ما نضع يدنا عليه سيبقى لنا، والباقي سيعاد إلى الفلسطينيين، وأن المخطط الصهيوني يقضي بتوطين عشرة ملايين مهاجر في الضفة الغربية.
ومع أن بؤرة "عمونا" تسكنها (30) عائلة استيطانية فقط، إلا أن عقيدة استيطان الضفة الغربية، هي الغالبة لدى اليمين الإسرائيلي بشكل خاص، فقد هدد حزب البيت اليهودي المتطرف، بزعامة "نفتالي بينت"، بإسقاط الحكومة إذا جرى هدم بؤرة "عمونا"، وفي حال خرج هذا الحزب من الائتلاف الحكومي ستتعرض للسقوط، فأخذوا يبحثون عن مخرج، وكان من بين الحلول تشريع قانون يحمل اسم "التسوية"، صادقت عليه اللجنة التشريعية للحكومة، ثم صادقت الكنيست عليه بالقراءة التمهيدية، لكن الموضوع في الأساس لا يتعلق ببؤرة "عمونا" فحسب، بل بمئات البؤر الاستيطانية التي أقيمت على ملكية فلسطينية، فاليمين الإسرائيلي لا يعترف بحقوق الفلسطينيين على أرضهم، بل أنهم يعتبرون الضفة الغربية جزءا من أرض إسرائيل التوراتية، وأنهم يبنون في أرضهم، ويعتبرون أنها أرضهم وليست أرضا محتلة، فالوزير "زئيف الكن" المقرب لـ "نتنياهو" يقول: لقد عدنا إلى أرضنا، ومن حقنا الاستيطان أينما نريد، بل ضم الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية، لتحقيق الحلم الصهيوني، باعتبار الضفة امتدادا لإسرائيل، وترى حركة السلام الآن أن ما يجري هو تصريح بسرقة أراضي الفلسطينيين بوضح النهار، وأن قانون التسوية سيزيد من الاستيلاء على أرض الفلسطينيين، ويوفر الغطاء لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية.
هناك مشروع يحمل اسم "متتياهودروبلس" الذي كان رئيساً للوكالة الصهيونية العالمية، وضع أساس المشروع الاستيطاني عام 1979، لإسكان مليون مستوطن في الضفة الغربية حتى عام "2020"، وأن خطته تسعى لبناء (58) ألف وحدة استيطانية، في هذه المرحلة التي حددها، وبالفعل فإن الخطة آخذة بالتجسيد، فإسرائيل تستخف بالعالم، وبالمجتمع الدولي، فـ"نتنياهو" يطلق على عمليات إخلاء المستوطنين مصطلح "التطهير العرقي"، أما إخلاء أصحاب الأرض الفلسطينيين من أرضهم وبيوتهم فهو مجاز، ومع أن "نتنياهو" تعهد للرئيس "أوباما" بأن إسرائيل لن تصادر أراضي فلسطينية من أجل إقامة مستوطنات جديدة عليها، أو توسيع مستوطنات قائمة، فإنه كاذب ومخادع وتعهداته باطلة، ففي إحصائية إسرائيلية تبين أن 15% يشكلون (60) ألف مستوطن، هم من المهاجرين اليهود الأميركيان، وأن المشروع الاستيطاني الإسرائيلي، لم يكن ليقام لولا الدعم المالي والسياسي والأمني الأميركي للكيان الإسرائيلي.
ونعود إلى بؤرة "عمونا"، التي أقيمت من دون قرار من الحكومة الإسرائيلية كغيرها من البؤر الاستيطانية، ويطالبون حالياً بشرعنتها، وهذا اعتراف ببطلانها، كما أن جميع المستوطنات حتى التي أقرتها الحكومة الإسرائيلية، باطلة وغير شرعية وفقاً للقانون الدولي، فمنذ عام (2000) تقدم أصحاب الأراضي من خلال المنظمة الحقوقية الإسرائيلية، بالتماس إلى المحكمة العليا طالبين هدم المباني التي أقيمت على أراضيهم، وإعادة الأرض لأصحابها، وتعهدت الحكومة في عام 2012 بهدمها، لكن المستوطنين ادعوا أنهم اشتروا الأرض، وتبين أن أوراقهم مزيفة، وأصرت المحكمة على هدم المباني لإقامتها على أراض ذات ملكية خاصة، وتقدمت الحكومة من أجل استمرار المماطلة، بطلب إلى المحكمة بإرجاء إخلاء البؤرة وهدمها لسبعة أشهر أخرى، لكن المحكمة رفضت الطلب، وأكدت ضرورة إخلائها مثلما نص عليه القرار في (25) من يناير المقبل ، رغم التهديدات التي يتعرض لها رئيس المحكمة من قبل المستوطنين، وتتعرض رئيسة المحكمة "مريام ناؤور" للتهديدات ووضعت عليها حراسة من قبل الأمن الإسرائيلي، لكنهم استمروا في البحث عن مخرج، فعثروا على قانون غير قانوني تحت اسم "التسوية"، قانون للالتفاف على قرار المحكمة بهدم هذه البؤرة، وأن أهم ما جاء فيه: يفضي إلى مصادرة كل أرض فلسطينية، ولو كانت بملكية خاصة، أقام عليها المستوطنون بؤراً استيطانية، بدعم من الحكومة، وأن تعرض الحكومة على صاحب الأرض تعويضا ماديا هشا، أو أرضا في مكان بعيد بغير إرادته، (لإرغامه على القبول بالتعويض المالي)، وأن الأراضي البديلة هي أراضي فلسطينيين غائبين، ثم يتم تسمية الأراضي المصادرة بأراضي دولة، وبالتالي تنقلها الحكومة إلى شعبة الاستيطان بالوكالة اليهودية، لتقوم الأخيرة بتمليكها للمستوطنين، ويجري الحديث عن آلاف الدونمات التي استولى عليها المستوطنون، بالعربدة وبدعم من الحكومة وبحماية الجيش وقوى الأمن، ومن أهداف قانون "التسوية" العمل على تصفية القضية الفلسطينية، ودفن أي إمكانية لاستقلال الشعب الفلسطيني، وإقامة دولته المستقلة.
القانون المقترح في وضع ضعيف جداً، وعلى الفلسطينيين رفعه إلى المحافل الدولية، فالمستشار القضائي للحكومة يصر على أن قرار المحكمة العليا بشأن بؤرة "عمونا" يجب أن ينفذ دون أي زيادة أو نقصان، ثم لا يمكن سن قانون يتعارض مع القانون الدولي، وأن الجهة التي تحدد القضاء الملزم لجميع الوزارات والسلطات الرسمية في الدولة، هو المستشار القانوني الذي يعتبر الحجة ذات الصلاحية بشأن القوانين، والجهة الوحيدة التي تلزم قضائياً أية جهة رسمية في الدولة، فالمحكمة رفضت إرجاء إخلاء "عمونا"، بإجماع أصوات القضاة، وقد وصف البروفيسور "موشيه هنغبي" قانون "التسوية"، بالنكسة، فلا يوجد أي أساس قانوني له، ولا توجد أية صلاحية للكنيست لاتخاذ أية قرارات تتعلق بالضفة الغربية، لأنها خارج حدود دولة إسرائيل قانونياً، وإذا أرادت الحكومة اتخاذ قرارات تتعلق بالضفة الغربية، عليها أولاً ضمها لإسرائيل مثلما فعلت مع القدس والجولان، ودون ذلك تبقى الجهة التشريعية في الضفة الغربية، الجهة العسكرية المسؤولة عن الضفة، وأن هذه الجهة مقيدة بالقانون الدولي الذي قبلت به إسرائيل منذ خمسين عاماً، والقانون الدولي ينص على أن المناطق الموجودة تحت الحكم العسكري، يمكن مصادرة أراض خاصة فقط إذا كانت ضرورية لأهداف عسكرية، مع أن الحكومة وعدت المحكمة بإخلاء بؤرة "عمونا"، فالقانون المقترح للالتفاف على قرار المحكمة هو قانون فاسد، سيقود إسرائيل إلى محكمة لاهاي الجنائية، فالادعاء بأن إسرائيل ديمقراطية ودولة قانون، هو ادعاء باطل، ففي عام 1948، أخرج الجيش الإسرائيلي سكان قريتي "أقرث وبرعم" شمال فلسطين لفترة مؤقتة، ثم منعهما من العودة، رغم أن المحكمة العليا أقرت حقهما بالعودة، لكن لا تنفيذ للقرار في دولة القانون المزيفة.
الحكومة الإسرائيلية تواجه مأزقاً في موضوع "التسوية" وتبحث عن مخارج أخرى، رغم موافقة الكنيست بالقراءة التمهيدية، بأغلبية (58) نائباً، ومعارضة (50) وتم تحويله إلى لجنة الكنيست، ربما لقبره، فهناك منافسة بين اليمين المتطرف، واليمين الأقل تطرفاً في موضوع البؤر الاستيطانية، على أصواتهم الانتخابية، ومع أن الهدف من التشريع هو الضم غير المعلن للضفة الغربية، فلعل إخلاء بؤرة "عمونا" -إذا تم- تكون بداية لإخلاء جميع البؤر والمستوطنات من الأراضي الفلسطينية المحتلة.

مدير دار الجليل للنشر والدراسات الفلسطينية