جوزيف ستيجليتز
استحقت سريلانكا بجدارة الثناء على التقدم الذي أحرزته منذ انتهاء الحرب ضد منظمة نمور التاميل الانفصالية عام 2009. فقد نما الاقتصاد بمتوسط معدل سنوي يبلغ 6.7 % فضلا عن إحصائيات مثيرة للإعجاب في مجال التعليم والصحة.
تواجه البلدان النامية كافة تحديات ضخمة، وينطبق الأمر بشكل خاص على بلد مثل سريلانكا عانى مرارة حرب أهلية عنيفة استمرت ثلاثين عاما. ولسوف تحتاج الحكومة إلى تحديد أولويات عملها، بيد أن النجاح سيتطلب تبني نهج شامل.
وعادة ما يعود أساس حروب، مثل قتال نمور التاميل، إلى مظالم اجتماعية واقتصادية مثل التمييز الحقيقي أو المتوهم وفشل الحكومة في التصدي كما ينبغي للتفاوت في الثروة والدخل. وبالتالي يتطلب الأمر أكثر من مجرد عدالة انتقالية في سريلانكا (أو كنموذج آخر، في كولومبيا، حيث من المرجح بشكل متزايد إقرار سلام مع القوات المسلحة الثورية الكولومبية). المطلوب هو إدماج تام للتاميل، تلك الأقلية السريلانكية الساخطة، في الحياة الاقتصادية للبلاد. ولن تحل الأسواق منفردة هذه المشكلة. فلسوف تحتاج سريلانكا إلى برامج تمييز إيجابي متوازنة بوسعها التصدي لمختلف أبعاد التفاوت الاقتصادي، برامج تتسق مع حجم الظلم الواقع بين السكان التاميل. فلن يجدي نفعا دعم أصحاب الثراء الفاحش من التاميل بسريلانكا بينما يُترك فقراؤهم، الطائفة الدنيا من التاميل، يزدادون فقرا.
وسوف يتطلب الاندماج الاقتصادي للمنطقة الشمالية للتاميل ضخ استثمارات عامة ضخمة في البنية الأساسية والتعليم والتكنولوجيا ومجالات أخرى كثيرة. وفي الواقع هناك حاجة لمثل هذه الاستثمارات للبلد بأسره. ومع ذلك تبلغ حصة الإيرادات الضريبية من الناتج المحلي الإجمالي فقط 11.6 % أي قرابة ثلث مثيلتها في البرازيل. ومثلها مثل الكثير من البلدان النامية، تمتعت سريلانكا ببساطة بثمار ارتفاع أسعار السلع الأساسية في السنوات الأخيرة (يمثل الشاي والمطاط 22 % من صادراتها).
ويقترح البعض أن تلجأ سريلانكا لصندوق النقد الدولي، وهو ما يَعِد بشد الأحزمة. الأمر الذي سيكون مرفوضا شعبيا على نطاق واسع. فبسبب برامج صندوق النقد الدولي فقدت الكثير من الدول سيادتها الاقتصادية. ومن ناحية أخرى، في هذه الحالة، يكاد يكون من المؤكد أن صندوق النقد الدولي سوف يخبر المسؤولين في سريلانكا ليس أن ما ينفقونه كثير للغاية بل أن ما يحصلونه من ضرائب قليل للغاية. ولحسن الطالع، هناك الكثير من الضرائب التي يمكن للسلطات فرضها والتي من شأنها زيادة الكفاءة والنمو والعدل.
ويطالب البعض في البلد، مستشهدين بنقص تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة (برغم التحسن الملحوظ في مناخ الأعمال)، بفرض ضريبة أقل على الشركات. بيد أن مثل هذه الامتيازات الضريبية غير فعّالة نسبياً في جلب ذلك النوع من الاستثمارات طويلة الأجل التي تحتاجها سريلانكا، فضلا عن أنها قد تفضي إلى إضعاف لا مبرر له للوعاء الضريبي الضعيف بالفعل.
ومن الاستراتيجيات الأخرى التي يتكرر اقتراحها استراتيجية الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والتي مثلها مثل غيرها قد لا تكون مفيدة بالقدر الذي يبدو من الترويج لها.وهكذا ينبغي لاستراتيجيات التنمية في القرن الواحد والعشرين أن تكون مختلفة، فلابد أن تقوم على أساس التعلم ــ التعلم للإنتاج والتعلم للتصدير والتعلم للتعلم. ومن الممكن أن تحدث قفزات سريعة للأمام: وفي حالة سريلانكا، قد تكون الفوائد (باستثناء التوظيف المباشر) التي يمكن حصدها من مراحل محددة للتصنيع منخفض المهارات، مثل صناعة الملابس، محدودة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار مستويات التعليم في البلاد، فقد تكون سريلانكا قادرة على التقدم مباشرة صوب قطاعات أكثر تطورا تكنولوجيا، صوب زراعة عضوية مرتفعة الإنتاجية وسياحة أكثر تطورا وتميزا.
ولكن، إذا سعت سريلانكا للقيام بمثل هذه الأنشطة فسوف تحتاج إلى توفير سياسات بيئية جيدة للجزيرة كلها، الأمر الذي يستوجب تخطيط حضري سليم. وإذ كانت سريلانكا محظوظة اليوم بقلة عدد مدنها، فمن المرجح أن يتغير هذا الوضع في العقدين القادمين، الأمر الذي يمنح البلد فرصة لبناء مدن نموذجية قائمة على تزويد الناس بما يكفي من الخدمات العامة والوسائل الجيدة للنقل العام على نحو لا يغيب عنه الوعي بتكلفة الكربون وتغير المناخ.
وسريلانكا، هذا البلد الرائع الذي يتمتع بموقع مثالي على المحيط الهندي، في وضع يُمَكِنه من التحول إلى مركز اقتصادي للمنطقة بأسرها مركز مالي وملاذ آمن للاستثمار في جزء من العالم مضطرب من الناحية الجيوسياسية. بيد أن هذا لن يحدث بالاعتماد المفرط على الأسواق أو بقلة الاستثمار في السلع العامة. ولحسن الطالع، مع إرساء السلام وظهور المؤسسات السياسية التمثيلية، تتوفر لسريلانكا اليوم فرص أفضل من أي وقت مضى لاتخاذ الخيارات الصائبة.
حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد والأستاذ بجامعة كولومبيا ورئيس الخبراء الاقتصاديين بمعهد روزفلت