هروب أوروبا الشرقية إلى موسكو

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٧/نوفمبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٥ ص
هروب أوروبا الشرقية إلى موسكو

سوافومير سييركوفسكي

يبدو أن حُكم الليبرالية الاقتصادية يقود الليبرالية السياسية في الغرب إلى الزوال. والواقع أن عددا متزايدا من الدول الرئيسية لا تشهد انتخابات بقدر ما تشهد استفتاءات على الديمقراطية الليبراليةــ استفتاءات تحسمها أصوات أولئك الذين خسروا بفِعل الديمقراطية الليبرالية. ففي الولايات المتحدة، كان انتخاب دونالد ترامب رئيسا بمثابة عقاب للمؤسسة التي تجاهلت مطالب حركة «احتلوا وال ستريت» الاحتجاجية في عام 2011.

وسوف يكون التحدي التالي الذي يواجه المؤسسة الرسمية الصمود في إيطاليا، حيث قد يقرر الاستفتاء الدستوري في الرابع من ديسمبر مصير رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي. وسوف يكون هذا التصويت تمهيدا للانتخابات الرئاسية في فرنسا في الربيع، حيث يكاد يكون من شِبه المؤكد أن يُفضي فوز جبهة مارين لوبان اليمينية المتطرفة إلى انهيار الاتحاد الأوروبي تماما، إن لم يكن الغرب الجيوسياسي بالكامل.
أياً كانت نتيجة هذه الانتخابات، فقد أثبت الخروج البريطاني وفوز ترامب أن الديمقراطية الليبرالية لم تعد المعيار للسياسة الغربية. ولا يخلو هذا من آثار بعيدة المدى. فكيف تحقق «الدول المتأرجحة»، مثل بولندا، الديمقراطية الليبرالية الآن بعد أن اختفت النقطة المرجعية الغربية؟ الواقع أن أوروبا الشرقية لم تستفد قَط عندما تدهورت الظروف السياسية في الغرب.
من المؤكد أن ترامب ليس مجرد طفل معتل المزاج يلعب بأعواد ثِقاب نووية؛ فهو أيضا طموح بشكل خطير، وقد تُفضي مقترحاته في السياسة الخارجية إلى انهيار تحالفات بالغة الأهمية وزعزعة استقرار النظام الدولي. وبطبيعة الحال، لا يعرف أحد -ولا حتى ترامب ذاته- ما إذا كان سيلبي وعود حملته الانتخابية. ولكن هذه هي النقطة على وجه التحديد: فالحكومات التي لا يمكن التنبؤ بتصرفاتها تضر بالاستقرار الجيوسياسي العالمي. وبالنسبة لبولندا وغيرها من دول أوروبا الشرقية، والتي يقوم استقلالها وديمقراطيتها على الوضع الراهن العالمي، فإن هذا قد يكون مسألة حياة أو موت.
الحق أن ترامب لم يخطئ عندما اقترح أن أمريكا لا تملك تَرَف الترويج للديمقراطية في الخارج. ولا تستطيع الولايات المتحدة مراقبة حقوق الإنسان أو تَقَدُم مبادئ الديمقراطية الليبرالية خارج حدودها. ولو أعيد توجيه الأموال التي استُثمِرَت في كل التدخلات الخارجية الأمريكية إلى تعزيز الرخاء في الداخل، فإن ترشح ترامب ما كان ليكتسب أي قدر من الأهمية.
ولكن بدلا من ذلك، أُمطِر الأمريكيون لعقود من الزمن بتقارير حول ركود الأجور، وانخفاض دخل الأسر، واتساع فجوة التفاوت -وكل هذا في حين كانوا يسمعون عن تكلفة الحرب في العراق التي بلغت ثلاثة تريليونات من الدولارات. وكان ترامب بمثابة عقوبة تأديبية متأخرة.
في نظر ترامب، لا يوجد أي تناقض بين الانعزالية والوعد بجعل أمريكا «عظيمة مرة أخرى». إذ تخدم الولايات المتحدة مصالحها على أفضل نحو، ليس بالحديث باسم المصالح العالمية، بل باسم مصالحها الخاصة، ومن خلال التوقف عن محاولة فرض الديمقراطية فرضا على العالم أجمع. وسوف تتقاسم قدرا أكبر من النفوذ مع روسيا والصين، ولكنها تذهب إلى طاولة التفاوض بوصفها اللاعب الأقوى، والذي يركز على ازدهاره شخصيا. ألا يبدو هذا معقولا؟ فالانعزالية هنا تساوي الازدهار والرخاء.
وحتى لو فشل هذا المنطق، وتسبب ترامب في حالة من الركود، فسوف تتمكن أمريكا من تحمله تماما كما تستطيع المملكة المتحدة أن تتحمل الخروج من الاتحاد الأوروبي. وسوف تتمكن الولايات المتحدة من تحمل الخسائر المالية؛ وسوف تكون آمنة في واقع الأمر. وليس من قبيل المصادفة أن يندفع المستثمرون القلقون إلى الدولار، حتى برغم أن مصدر توترهم كان انتخاب ترامب.
من الناحية الجيوسياسية، تُعَد كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة دولة جزيرة مسلحة بأسلحة نووية. ولُغة البلدين مستخدمة في مختلف أنحاء العالم. وأياً كان ما قد يفعله ترامب، فسوف تظل الولايات المتحدة المنتِج الأكبر للتكنولوجيا الحديثة، والثقافة الجماهيرية، والطاقة، وسوف تظل الدولة التي تؤوي أغلب الحائزين على جائزة نوبل، وأفضل الجامعات في العالم، والمجتمع الأكثر تنوعا في الغرب. وإذا توقفت عن إقحام أنفها في الصراعات الخارجية، فسوف تظل محتفظة بأصدقائها في مختلف أنحاء العالم.
الخاسر الأكبر من الانتخابات الأمريكية هو الاتحاد الأوروبي، المبتلى بالخصومات الداخلية والعجز عن معالجة الأزمات الاقتصادية والديموغرافية فضلا عن أزمة اللاجئين. وقد تكون نتيجة فوز ترامب شيئا أشبه بنظام فيينا للعلاقات الدولية، الذي عمل على استقرار القارة خلال الفترة من عام 1815 إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى. ولكن هذا النظام استبعد العديد من الدول، ومنها بولندا. وباعتباره مخلوقا تكنوقراطيا غير مكتمل، يُعَد الاتحاد الأوروبي هدفا للهجمات الشعبوية. وقد فشل حتى الآن في تحقيق القدر الكافي من التكامل لمنع انهياره، وكانت استجابته للخروج البريطاني المماطلة والإرجاء.
وفي حين لا ترغب ألمانيا الثرية في مد يد العون لدول الاتحاد الأوروبي الجنوبية، ترفض الدول التي نالت سيادتها حديثا بعد العهد الشيوعي استقبال اللاجئين كما ترفض إظهار التضامن مع أوروبا الغربية. من ناحية أخرى، لا يقل الاتحاد الأوروبي ككل ثراءً عن الولايات المتحدة، ومع هذا فإنه لا يملك جيشا ويعتمد بشكل كامل على الولايات المتحدة للدفاع عنه. ولا يملك المرء إلا أن يتساءل لماذا تَطَلَّب الأمر وقوع كوارث عبر أطلسية متعددة قبل أن يدرك الاتحاد الأوروبي أنه لابد أن يسهر على أمنه بنفسه؟
وسوف يعني النفوذ الروسي انسحاب حلف شمال الأطلسي من أوروبا الشرقية. وربما تكون أوروبا الغربية سعيدة بالانسحاب هي أيضا، حيث ستغتنم الفرصة للتخلص من الجيران الذين أصبحوا يمثلون عبئا ثقيلا مثل بولندا التي برغم كونها المتلقي الأكبر لأموال الاتحاد الأوروبي تعارض المزيد من التكامل، ولم تتبن عملة اليورو، وتريد الاستمرار في استخدام الفحم كوقود، وتتشاجر مع ألمانيا وفرنسا والمؤسسات الحاكمة في الاتحاد الأوروبي.
من المرجح مع انحسار النفوذ الغربي، أن تعمل دول أوروبا الشرقية على تعميق علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع روسيا. ففي إستونيا، يوشك حزب الوسط الموالي لروسيا على الدخول في الائتلاف الحاكم. وبعد منطقة البلطيق، سوف يحين دور دول أوروبا الشرقية. ولن تجد الدول التي لم تعتنق أفكار الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بالفعل أية بدائل غير ذلك.
لن تكسب بولندا أي شيء من مثل هذا التحالف. إذ يعتبر أهل بولندا حدود بلادهم الحالية مقدسة، وليست لعنة كما هي الحال في المجر. ولن يراهن إلا أحمق في عالَم السياسة على تحالف يشارك فيه رجعيون من أمثال رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان. ومن المؤسف، كما يشير انتخاب ترامب بوضوح شديد، أن الحماقة غير الليبرالية تحل بشكل مضطرد محل الديمقراطية الليبرالية باعتبارها المبدأ الحاكم للسياسة الغربية -والبولندية- اليوم.

مؤسِّس حركة النقد السياسي، ومدير معهد الدراسات

المتقدمة في وراسو.