الحقيقة بشأن التجارة

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٢/نوفمبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٥ ص
الحقيقة بشأن التجارة

داني رودريك

تُرى هل كان أهل الاقتصاد مسؤولين جزئيا عن الفوز المذهل الذي حققه دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية؟ حتى لو لم يكن بوسعهم أن يمنعوا فوز ترامب، فإن تأثير خبراء الاقتصاد على المناقشة العامة كان ليصبح أعظم كثيرا لو تمسكوا بتعاليم مهنتهم، بدلا من الوقوف في صف المصفقين للعولمة.
عندما ذهب كتابي "هل تجاوزت العولمة الحدود؟" إلى المطبعة قبل ما يقرب من عقدين من الزمن، اقتربت من رجل اقتصاد معروف لأسأله إذا كان ليوافق على التوقيع على الغلاف الخلفي لكتابي بكلمة تأييد. وقد زعمت في الكتاب أن الإفراط في العولمة في غياب استجابة حكومية أكثر تجانسا من شأنه أن يُفضي إلى تعميق الانقسامات المجتمعية، وتفاقم المشاكل المرتبطة بالتوزيع، وتقويض المساومات الاجتماعية المحلية -وهي الحجج التي تحولت إلى بديهيات عامة منذ ذلك الحين.
الواقع أن رجل الاقتصاد المعروف رفض طلبي، قائلا إنه لا يختلف حقا مع أي جزء من التحليل، ولكنه خشي أن يوفر كتابي "الذخيرة للهمجيين". فسيستغل أنصار تدابير الحماية الحجج التي يسوقها الكتاب حول سلبيات العولمة لتوفير الغطاء لأجندتهم الأنانية الضيقة.
ما زلت أتلقى ردة الفعل نفسها من زملائي الاقتصاديين. فسيرفع أحدهم يده مترددا ويسألني: ألا تخشى أن يُساء استغلال حججك على النحو الذي يخدم زعماء الدهماء والشعبويين الذين تشجبهم؟
الواقع أن خطر اختطاف حججنا في المناقشة العامة من قِبَل أولئك الذين نختلف معهم قائم دائما. ولكني لم أفهم قَط لماذا يعتقد كثير من الاقتصاديين أن هذا يعني أننا ينبغي لنا تحريف حجتنا بشأن التجارة في اتجاه بعينه. تبدو الفرضية الضمنية هنا أن الهمجيين لا وجود لهم إلا على جانب واحد من المناقشة الدائرة حول التجارة. ففي الظاهر لابد أن يكون أولئك الذين يُعرِبون عن عدم رضاهم عن قواعد منظمة التجارة العالمية أو الاتفاقيات التجارية من أنصار تدابير الحماية المتوحشين، في حين ينتمي أولئك الذين يدعمونها إلى جانب الملائكة بكل تأكيد.
الحق أن العديد من المتحمسين للتجارة ليسوا أقل تحفزا بفِعل أجندات ضيقة أنانية. فمن المؤكد أن شركات الأدوية التي تسعى إلى فرض قواعد أكثر صرامة في إدارة براءات الاختراع، أو البنوك التي تدفع في اتجاه القدرة غير المقيدة على الوصول إلى الأسواق الخارجية، أو الشركات المتعددة الجنسيات التي تسعى إلى إقامة محاكم تحكيم خاصة، ليست أكثر احتراما للمصلحة العامة من أنصار الحماية. وعلى هذا فعندما يظلل أهل الاقتصاد حججهم فإنهم بذلك يحابون فعليا مجموعة من الهمجيين على حساب الأخرى.
منذ فترة طويلة، كانت القاعدة غير المعلنة للمشاركة العامة بين الاقتصاديين تتلخص في ضرورة مناصرة التجارة والابتعاد قدر الإمكان عن التفاصيل الدقيقة. وقد أفضى هذا إلى وضع غريب. ذلك أن النماذج المعتادة للتجارة والتي يستعين بها خبراء الاقتصاد تسفر عادة عن تأثيرات توزيعية حادة: فالخسائر في الدخل من جانب مجموعات معينة من المنتجين أو فئات العمال تمثل الجانب الآخر من "المكاسب من التجارة". وكان خبراء الاقتصاد يعرفون منذ فترة طويلة أن إخفاقات السوق -بما في ذلك أسواق العمل المختلة، وأوجه القصور في أسواق الائتمان، والعوامل الخارجية المرتبطة بالمعرفة أو البيئة، والاحتكارات- من الممكن أن تتداخل مع جني هذه المكاسب. وكانوا على عِلم أيضا بأن الفوائد الاقتصادية المترتبة على اتفاقيات التجارة والتي تتجاوز الحدود وتعمل على تشكيل القواعد التنظيمية المحلية -كما هي الحال مع تشديد قواعد منح البراءات أو المواءمة بين متطلبات الصحة والسلامة- غامضة جوهريا.
ومع ذلك، يمكننا أن نعتمد على ترديد خبراء الاقتصاد لعجائب الميزة النسبية والتجارة الحرة كالببغاوات كلما تحدث أحد عن الاتفاقيات التجارية. وقد دأبوا على التخفيف من المخاوف المرتبطة بالتوزيع، حتى برغم أنه بات من الواضح الآن أن التأثير التوزيعي، ولنقل على سبيل المثال الناجم عن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية أو انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، كان كبيرا بين المجموعات الأكثر تأثرا بشكل مباشر في الولايات المتحدة. وقد بالغوا في تقدير حجم المكاسب الكلية الناجمة عن الاتفاقيات التجارية، وإن كانت مثل هذه المكاسب ضئيلة نسبيا منذ تسعينيات القرن العشرين على الأقل. كما أيدوا الدعاية التي تصور الاتفاقيات التجارية اليوم على أنها "اتفاقيات تجارة حرة"، حتى برغم أن آدم سميث وديفيد ريكاردو ربما يتقلبان في قبريهما ألما إذا اطلعا على بنود اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ.
إذا تحرينا الصدق بشأن التجارة فلابد أن نعترف بأن هذا التردد كلف أهل الاقتصاد مصداقيتهم بين عامة الناس. والأسوأ من هذا أنه زَوَّد خصومهم بالذخيرة. إن فشل أهل الاقتصاد في تقديم الصورة الكاملة بشأن التجارة، مع كل أشكال التمييز والمحاذير الضرورية، تسبب في تيسير جهود تشويه التجارة، ظلما في أكثر الأحيان، بكل أشكال التأثيرات السيئة.
على سبيل المثال، بقدر ما أسهمت التجارة في اتساع فجوة التفات، فإنها لا تمثل سوى عامل واحد بين كل العوامل المساهمة في هذا الاتجاه العريض - وهي في كل الأحوال بسيطة التأثير نسبيا، مقارنة بالتكنولوجيا. ولو كان أهل الاقتصاد أكثر صراحة في الإفصاح عن الجانب السلبي للتجارة، فربما كانوا ليحظوا بقدر أكبر من المصداقية كوسطاء صادقين في هذه المناقشة.
أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون ف. كينيدي للإدارة الحكومية في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب "الاقتصاد يحكم: حقائق وأباطيل العِلم الكئيب".