إنقاذ الرأسمالية العالمية

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٧/نوفمبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٥ ص
إنقاذ الرأسمالية العالمية

الكسندر فريدمان

دفعت سياسة التوترالاقتصادي مؤخرا ناخبي المملكة المتحدة والولايات المتحدة نحو الشعبويين. وبنظر الحكماء، يمكن للاقتصادات أن تعود مرة أخرى إلى المعدل «الطبيعي» للناتج المحلي الإجمالي ونمو الإنتاجية، وأن تتحسن حياة الكثير من الناس، وستتضاءل المشاعر المناهضة للمؤسسة، وستعود السياسة إلى «طبيعتها». وبذلك، ستتمكن الرأسمالية والعولمة والديمقراطية من مواصلة مسيرتها.

لكن مثل هذا التفكير يعكس استقراء فترة شاذة بشكل كبير في التاريخ. وقد انتهت تلك الفترة، ولن تستطيع القوات التي كانت تدعمها فعل ذلك مرة أخرى في أي وقت قريب. ويمثل الابتكار التكنولوجي والتركيبة السكانية الآن فرصة للتقدم، وأن تساهم في التقدم لأن النمو والهندسة المالية لا يمكنهما إنقاذ الوضع اليوم.

الفترة الشاذة في التاريخ هي مائة أو ما يقربها من السنوات بعد الحرب الأهلية الأميركية، حيث تمت اختراقات واختراعات في مجالات الطاقة والكهرباء، والاتصالات، والنقل، وتشكيل المجتمعات بشكل جذري. فأصبحت حياة الإنسان بشكل ملحوظ أكثر إنتاجية، و ارتفع متوسط العمر المتوقع بشكل كبير. وارتفع عدد سكان العالم أكثر من 50٪ بين 1800 و 1900، وبعد ذلك بأكثر من الضعف خلال السنوات الخمسين التالية، مع نمو الاقتصادات بشكل أسرع بكثير مما كانت عليه في القرون الفائتة .
بحلول نهاية عام 1970، بدأ النمو في التباطؤ في كثير من الاقتصادات الغربية المتقدمة، وقاد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ورئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي ألان غرينسبان دورة الديون التي عززت النشاط. حتى ذلك الحين كانت الولايات المتحدة البلد الدائن، والآن أصبح بلدا يقترض كثيرا، مما جعل الصين والأسواق الناشئة الأخرى تستفيد من ارتفاع العجز التجاري الأمريكي. ودفع النفوذ المالي النمو العالمي إلى الأمام لما يقرب من 30 سنة أخرى.
وأدت الأزمة العالمية لعام 2008 إلى نهاية مفاجئة إلى عصر الهندسة المالية. لكن صناع السياسة لا يرغبون في رؤية تباطأ النمو، والمصرفيون المركزيون يستنفذون أدواتهم في محاولة لتحفيز النشاط الاقتصادي على الرغم من عدم كفاية الطلب. مع انخفاض العائدات والأرباح من الأصول ذات الدخل الثابت التقليدي، أقبل المستثمرين على شراء الأصول المحفوفة بالمخاطر بجميع أشكالها مما أدى إلى ارتفاع أسعارها، ونتيجة لذلك أصبح الأغنياء أكثر ثراء، وتم التخلي عن الطبقة الوسطى. كما استمر النمو في الاقتصاد الحقيقي في الركود، وارتفعت الشعبوية الغاضبة، مما أدى إلى فوز البريكست والرئيس المنتخب ترامب.
أما بالنسبة لكل ما قام به المصرفيون المركزيون لإنعاش النمو الاقتصادي، فقد قامت قوى الديمغرافية والابتكار بإضعافه. كما التجأ الهرم السكاني للاقتصادات المتقدمة إلى شبكات الأمان الاجتماعي. وتُعَد الصين هرما أيضا. إن معظم النمو الديموغرافي اليوم (وغدا) يوجد في أفريقيا، حيث لا تزيد الإنتاجية العالمية بالدرجة التي نجدها في مكان آخر.
وعلاوة على ذلك، فإن الموجة الحالية من الابتكار التكنولوجي لا تساعد في كل شيء. حتى مع إضافة محبي اوبر والأمازون، والروبوتات بشكل أساسي، رغم مزاياها، فإنها تفعل ذلك من خلال إزالة وظائف الطبقة العاملة أو تخفيض الأجور.
هذا هو الوضع الطبيعي لعملية «التدمير الخلاق» التي وصفها جوزيف شومبيتر بعامل النمو في الاقتصادات الرأسمالية. كما تفيد الموجة الأولى للابتكارات طبقة رجال الأعمال بالأساس. ثم جاءت موجة ثانية (موجة الاستغناء)، حيث تكيفت التكنولوجيا مع الصناعات القائمة على حساب اليد العملة. قبل ثلاثة عقود، كان وول مارت يستخدم أجهزة الكمبيوتر والخدمات اللوجستية لمحو «أعمال تجارية» صغيرة، اليوم، الأمازون تتحدى وول مارت. الموجة الثالثة تتمثل في الانتشار الواسع للابتكار في الطرق التي ترفع مستويات الإنتاجية والمعيشية بشكل عام. لكن سيستغرق هذا وقتا أطول من ذلك بكثير. أو، كما قال الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل روبرت سولو في عام 1987، «يمكنك أن ترى عصر الكمبيوتر في كل مكان سوى في الإحصاءات الإنتاجية».
وقد قال روبرت جوردون من جامعة نورث وسترن أن الأثر الاقتصادي للابتكارات اليوم لا يساوي شمعة من التي في السباكة أو الكهرباء. قد نكون في مرحلة مبكرة من دورة شومبيتر للابتكار (اٍغناء القليل) والتدمير (خلق القلق في القطاعات الضعيفة). وفي نهاية المطاف، من المحتمل أن يستفيد متوسط الإنتاجية والدخل الحقيقي كما ستؤهل التكنولوجيات المتقدمة أنواع جديدة من النمو.
المشكلة هي أن الأمر قد يستغرق عشر سنوات أو أكثر قبل قيام الروبوتات وما يماثلها بإطعام المد المتصاعد الأوسع الذي يحقق نجاح الكل. أما فيما يخص ما إذا كان شومبيتر أو غوردون على حق، فذلك لا يهم السياسيين الذين يواجهون الناخبين الغاضبين الذين انخفض مستوى معيشتهم. اليوم، يرفض الناخبون الغاضبون العولمة؛ غدا، قد يصبحوا من محطمي الآلات.
السؤال الآن هو ما إذا كان التحول من السياسات النقدية غير التقليدية لنظام عالم الاقتصاد كينز يمكنه إنقاذ الوضع اليوم. يفترض على نطاق واسع أن السياسة النقدية هي قوة مستهلكة في الولايات المتحدة وأوروبا، ويجب على تلك الحوافز المالية والتوسع - على سبيل المثال، عن طريق خفض الضرائب والإنفاق على البنية الاساسية - تولي المسؤولية. لكن هذا يتطلب نظم سياسية مستقرة للمحافظة على الاستراتيجيات المالية الطويلة الأجل. وتشير التطورات الأخيرة، لاسيما في أوروبا، إلى أن مثل هذه الاستراتيجيات سيكون من الصعب تنفيذها.
في الولايات المتحدة، فوز ترمب، إلى جانب الأغلبية الجمهورية في مجلسي النواب والشيوخ، سيمهد الطريق لخفض الضرائب وزيادة الإنفاق على الدفاع. ويبدو أن المضخة مستعدة للتشغيل. لكن التوسع المالي من المحتمل أن يواجه مقاومة من السياسة النقدية، كما سيستأنف المجلس الاحتياطي الفيدرالي «تطبيعه» لأسعار الفائدة.
لا نزال نأمل أن يحد تسارع النمو في الولايات المتحدة وارتفاع الأجور من التمرد الشعبي للناخبين. ستبقى المسؤولية على عاتق البنك الاحتياطي الفيدرالي «لفعل الشيء الصحيح» - وذلك لتطبيع أسعار الفائدة بحذر شديد، بينما يسمح بارتفاع دخل العمال في الناتج المحلي الإجمالي، حتى لو كان ذلك سيتطلب بعض التجاوز في التضخم. على حد تعبير ديلان توماس، لا ينبغي علينا نحن المؤمنين بالأسواق التوجه نحو الشعبوية. بل يجب علينا أن ننقد الرأسمالية العالمية بكل ما لدينا من أدوات. إن تباطؤ النمو اليوم والتراجع السياسي ليس «بالطبيعي الجديد». بدلا من ذلك، يعود بالذاكرة إلى «الطبيعي القديم»، الذي شاهدناه في عام 1930. مهما يكون الطريق الصحيح في المستقبل بالنسبة للاقتصاد العالمي، نحن نعلم أن ذلك لا يمكن أن يعني العودة إلى الانعزالية والحمائية لتلك الحقبة.

الرئيس التنفيذي في GAM والمدير المالي لمؤسسة بيل وميليندا غيتس، وزميل في البيت الأبيض خلال إدارة كلينتون.