الليبرالية منخفضة التكاليف

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١٦/نوفمبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٥ ص
الليبرالية منخفضة التكاليف

روبرت سكيدلسكي

بذلت المؤسسة الجمهورية جهودا مفرطة لتقديم الرئيس المنتخب دونالد ترمب كضامن للاستمرارية. وهو بطبيعة الحال ليس أي شيء من هذا القبيل. فقد أدار حملته ضد المؤسسة السياسية، وكما قال في اجتماع حاشد قبل الانتخابات، فإن الفوز في نظره "أعظم من الخروج البريطاني". ومع وقوع زلزالين سياسيين تفصل بينهما أشهر قليلة، وتوقع المزيد من مثل هذه الزلازل بكل تأكيد في المستقبل، فربما نتفق مع حكم سفير فرنسا إلى الولايات المتحدة، ومفاده أن العالم كما نعرفه "ينهار أمام أعيننا".
كانت آخر مرة نشهد فيها مثل هذا الحدث في عصر الحربين العالميتين، من 1914 إلى 1945. في ذلك الوقت، سَجَّل وليام بتلر ييتس شعور "انهيار" العالم في قصيدة نُشِرَت في عام 1919 بعنوان "المجيء الثاني": "الأشياء تتهاوى؛ ولم يعد المركز قادرا على الصمود؛ وأطلِق العنان للفوضى المحضة تجتاح العالَم". مع فقدان مؤسسات الحكم التقليدية لمصداقيتها تماما بفِعل الحرب، يملأ فراغ الشرعية زعماء الدهماء الأقوياء والطغاة الشعبويون: "أفضلهم يفتقر إلى أي وسيلة للإقناع، في حين يمتلئ أسوأهم بحماسة انفعالية". وكان هذا نفس رأي أوزوالد سبنجلر في كتابه "انحدار الغرب"، الذي نُشِر في عام 1918.
تَشَكَّلت نبوءة ييتس السياسية بفِعل عقيدته الدينية. فكان يعتقد أن العالم لابد أن يعيش "كابوسا" حتى "تولد بيت لحم". وفي أيامه، كان محقا. فقد استمر الكابوس الذي فطن إليه طوال فترة الكساد الأعظم من 1929 إلى 1932، ثم بلغ ذروته في الحرب العالمية الثانية. وكانت هذه مقدمات "المجيء الثاني"، ليس مجيء المسيح بل الليبرالية المبنية على أسس اجتماعية أكثر رسوخا.
ولكن هل كانت كوابيس الكساد والحرب مقدمات ضرورية؟ هل الرعب هو الثمن الذي يتعين علينا أن ندفعه مقابل التقدم؟ الواقع أن الشر كان دوما وكيل الخير (فلولا ظهور هتلر ما نشأت الأمم المتحدة، ولا باكس أميريكانا، ولا الاتحاد الأوروبي، ولا اعتُبِرَت العنصرية من المحرمات، ولا انتهى الاستعمار، ولا ظَهَر اقتصاد جون ماينارد كينز، وكثير غير هذا). ولكن هذا لا يعني أن الشر ضروري للخير، وبالطبع لا ينبغي لنا أن نتمناه كوسيلة لتحقيق غاية.
فنحن لا نستطيع أن نتبنى سياسة الاضطرابات والفوضى، لأننا لا نستطيع أن نضمن أنها ستنتج شخصا كروزفلت وليس هتلر. ولابد أن أي شخص عاقل محترم يأمل في التوصل إلى طريقة أكثر اعتدالا لتحقيق التقدم.
ولكن هل يجب أن تنهار هذه الطريقة ــ ولنسمها ديمقراطية برلمانية أو دستورية ــ بشكل دوري وبطريقة مأساوية؟ يتلخص التفسير المعتاد في أن النظام يفشل لأن النُخَب تفقد اتصالها بالجماهير. ولكن في حين يتوقع المرء أن يحدث هذا الانفصال في الدكتاتوريات، فلماذا يحدث التحرر من وهم الديمقراطية في الديمقراطيات أنفسها؟
يرجع أحد التفسيرات إلى عهد أرسطو الذي زعم أن الديمقراطية تنحرف بفِعل النخبة الثرية. فكلما اتسعت فجوة التفاوت في أي مجتمع، كلما تباعدت أساليب حياة وقيم الأثرياء عن تلك التي نجدها بين الناس "العاديين". فهم يسكنون في نهاية المطاف مجتمعات مغلقة رمزية حيث يُعَد نوعا واحدا فقط من المحادثات لائقا ومحترما ومقبولا. وهذا في حد ذاته يُعَد تجريدا جسيما للحقوق. وفي نظر أنصار ترمب، لم تكن زلاته وسقطاته زلات أو سقطات على الإطلاق، أو إذا كانت كذلك فإن أنصاره لا يمانعون.
لكن الاقتصاد وليس الثقافة هو الذي يضرب في قلب الشرعية. فعندما تعود ثمار التقدم الاقتصادي في الأساس على الأثرياء، يُصبح الانفصال بين القيم الثقافية التي تعتنقها الأقلية والأغلبية مزعزعة للاستقرار إلى حد خطير. وفي اعتقادي أن هذا هو ما يحدث في العالَم الديمقراطي.
كان مصير المجيء الثاني لليبرالية، والذي تمثل في روزفلت وجون ماينارد كينز ومؤسسي الاتحاد الأوروبي، الدمار بفِعل اقتصاديات العولمة: السعي إلى إيجاد التوازن المثالي من خلال ضمان حرية انتقال السلع ورأس المال والعمالة، مع ما يرافق ذلك من تسامح مع الإجرام المالي، ومكافآت جزيلة فاحشة يحصل عليها قِلة من الناس، ومستويات عالية من البطالة والبطالة الجزئية، وتقليص دور الدولة في توفير الرعاية الاجتماعية. ويأتي التفاوت الناجم عن هذا في النتائج الاقتصادية لينزع حجاب الديمقراطية الذي يُخفي عن غالبية المواطنين الآليات الداخلية الحقيقية للسلطة.
الواقع أن "الحماسة الانفعالية" التي يتسم بها الشعبويون تنقل رسالة بسيطة ويسهل فهمها وتنتشر بسهولة الآن: فالنُخَب أنانية وفاسدة وإجرامية غالبا. ولابد أن تُعاد السلطة إلى الناس. وليس من قبيل المصادفة بكل تأكيد أن تأتي الصدمتان السياسيتان الأكبر هذا العام ــ الخروج البريطاني وانتخاب ترمب ــ من البلدين اللذين اعتنقا بكل حماس الاقتصاد النيوليبرالي.
على هذه الخلفية، وليس على أساس معيار أخلاقي أو اقتصادي مثالي، ينبغي لنا أن نحكم على آراء ترمب الجيوسياسية والاقتصادية. بعبارة أخرى، ربما تكون طريقة ترامب حلا لأزمة الليبرالية، وليس نذيرا بتفككها.
من هذا المنظور، تصبح انعزالية ترامب وسيلة شعبوية للقول بأن الولايات المتحدة لابد أن تنسحب من الالتزامات التي لا تملك القدرة ولا الإرادة اللازمة لاحترامها. وعلى هذا فإن الوعد بالعمل مع روسيا لإنهاء الصراع الوحشي الدائر في سوريا أمر معقول للغاية، حتى وإن كان يعني ضمنا انتصار نظام بشار الأسد. ويتمثل التحدي الأكبر الذي ينتظر ترمب في فك الارتباط سلميا من المسؤوليات العالمية المعلومة.
يعود نزوع ترمب إلى الحماية إلى تقليد أميركي أقدم. فقد تعثر اقتصاد الولايات المتحدة الذي اتسم بارتفاع الأجور والتصنيع الغني بالوظائف بفِعل العولمة. ولكن كيف قد يبدو الشكل المعقول من الحماية؟ يتمثل التحدي هنا في فرض ضوابط أكثر صرامة من دون إفقار الاقتصاد العالمي أو إذكاء نيران المنافسات الوطنية وتأجيج المشاعر العنصرية.
وُعَد ترمب أيضا ببرنامج للاستثمار في البنية الأساسية بقيمة 800 مليار إلى تريليون دولار أميركي، على أن يمول هذا البرنامج عن طريق إصدار السندات، فضلا عن خفض ضرائب الشركات بشكل كبير، بهدف خلق 25 مليون وظيفة جديدة وتعزيز النمو. ويرقى هذا، جنبا إلى جنب مع التعهد بالحفاظ على مستحقات الرعاية الاجتماعية، إلى شكل حديث من أشكال السياسة المالية على طريقة كينز (وإن كانت غير معترف بها بهذا الوصف بطبيعة الحال). ويتميز هذا الشكل بتحديه الصريح المباشر للهوس النيوليبرالي بخفض العجز والدين، والاعتماد على التيسير الكمي كأداة وحيدة ــ ومستنفدة الآن ــ لإدارة الطلب.
مع انتقال ترامب من الشعبوية إلى السياسات، لا ينبغي لليبراليين أن يديروا له ظهورهم اشمئزازا ويأسا، بل يتعين عليهم أن يشاركوا في تحقيق الإمكانات الإيجابية لطريقة ترامب. والأمر يتطلب فحص وتمحيص وتنقيح مقترحاته، وليس رفضها باعتبارها هذيانا جاهلا. ومهمة الليبراليين الآن تتلخص في ضمان المجيء الثالث لليبرالية بأقل تكلفة للقيم الليبرالية. ولن يخلو الأمر من بعض التكلفة. وهذا هو المغزى من الخروج البريطاني، وفوز ترمب، وأي انتصار شعبوي قادم.

عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ الاقتصاد السياسي الفخري في جامعة وارويك.