زاهي وهبي
صرفنا ردحاً من أعمارنا ونحن ننادي بحرية الأوطان والشعوب والمجتمعات، كانت الشعارات الكبرى عناوين دائمة لمسار حياتنا، والأحلام المستحيلة هدفنا المنشود. استفقنا بعد حين على واقعنا المرير، ما أن رُفِع الغطاء ولو قليلاً تحت مُسمّى "الربيع" حتى بان العجب العِجاب، أطلت شياطين الفتن بقرونها المسننة وعيونها الحمراء موقِدةً نيرانها المستعرة في طول البلاد وعرضها، تهاوت أحلامنا من وحدة كاملة شاملة تمتد من المحيط الى الخليج حتى أمست أمنيات بسيطة بوحدة الحي أو العمارة. فالنعرات الطائفية والمذهبية لا تهدد في الحقيقة الطوائف والمذاهب بل تهدد الأوطان والمجتمعات لأنها تفتت النسيج المجتمعي وتفرّق الناس وتولِّد الضغائن والأحقاد وتباعد بين الابن وأبيه والأخ وأخيه.
الواقع أن الطوائف والمذاهب والقبائل والفئات الجهوية والمناطقية تقوى بالنعرات على حساب الوطن والمجتمع.
متى شعرت الطائفة أو القبيلة أو الفئة بالخطر والتهديد اشتد ساعدها وعصبيتها والتف جميع أبنائها حول بعضهم بعضاً خشيةَ الخطر الداهم. لكنه في الحقيقة وهمُ قوة، لماذا؟ لأنه كلما تضاعفت قوة الجماعة الفئوية تقلصت قوة الوطن، ولا عاصم للناس بعد الله غير أوطانهم. تقوى الجماعات فتتنازع وتتعارك وتتذابح معتمدةً سياسة اخافة أتباعها من الآخر لتضمن ولاءهم واستنفار غرائزهم، وكله في النهاية بهتان وخسران للوطن وأهله.
لا ندين الطوائف والمذاهب والقبائل والفئات أياً كانت، بلدان العالم برمتها مكونة من خليط كثير التنوع والاختلاف. ما ندينه هو الطائفية والمذهبية والقبلية والفئوية وسائر العصبيات التي تفرِّق ولا تجمع. قراءةُ تاريخ الأمم والشعوب تعطينا الأمثولة الراسخة: ما مِن جامع مثل الوطن. ويلٌ للشعوب حين تفرِّط بأوطانها، تتحول جماعات متناحرة متعاركة لا ينتج عن صراعاتها القاتلة المدمرة سوى خراب الاوطان، كلٌّ يظنُّ أنه ينصرُ جماعته بينما هو في الحقيقة يخذل وطنه. ثمة أغنية شعبية قديمة تقول ما معناه أن مَن أضاع حبيباً يمكن أن يجده، لكن الذي أضاع وطناً كيف يجده. لن نجد أوطاننا ما لم نعقلِن أحلامنا وشعاراتنا(وخطابنا كما كتبنا قبل أسابيع في هذه الصفحة) أي أن نُعِيد النظر فيها لاكتشاف مكامن الخلل، اذ من غير المعقول والمنطقي أن تتحرر شعوب الأرض كلها وتتقدم وتتطور وتصنع نهضتها فيما نبقى في داحس والغبراء بين مطرقة الاستبداد وسندان الفوضى والمذهبيات القاتلة، وكأن لا خيار لنا سوى المرّ أو الأمرّ منه. عقود كاملة من أعمارنا ذهبت هدراً ونحن نلهث وراء سراب وأضغاث أحلام، لذا تبدو اعادة النظر واستخلاص العِبر ضرورية جداً وملّحة وعاجلة، لا لأجلنا فحسب بل لأجل أبنائنا وأحفادنا وأجيالنا القادمة كي لا تلعننا ويلعننا معها التاريخ الذي لا يرحم مَن لا يتعلم منه.
نؤمن أن الحرية شرط تقدّم الأمم، حرية التفكير والتعبير والابتكار والاستنباط، وهذه تبدأ من تفسير النص الديني وتأويله ولا تنتهي في مناهج التربية والتعليم. الحرية ليست شعاراً فحسب، ليست قصيدة وأغنية وتظاهرة وهتافاً ويافطة تُعلَّق في ساحة عامة. هي كل هذا نعم، لكنها أولاً حرية التفاصيل اليومية البسيطة التي نعتبرها تحصيل حاصل أو لزوم ما لا يلزم. هذه حقيقة يدركها جيداً من اختبر تجربة السجن والاعتقال، حرية أن تنهض في الصباح وتقرّر أنت لا سواك أتحتسي القهوة أم الشاي، أترتدي الأبيض أم الأسود، أتسمع الموسيقى أم نشرة الأخبار، أتصلي الجمعة أم الأحد...الى آخر الخيارات التي يواجهها الانسان في حياته اليومية. حرية الوطن تبدأ بحرية المواطن، وحرية المجتمع تبدأ بحرية الفرد. الفرد نواة الجماعة، والحريّة الفردية هي المدخل الى الحرية الجماعية. لا يمكن أن يغدو المجتمع حراً ومتقدماً ما لم تتحقق فيه أولاً حرية الأفراد. الحرية الاجتماعية توازي الحرية السياسية ان لم تكن تضاهيها. الديمقراطية ليست فقط حرية انتخاب ترشيحاً وتصويتاً. هذه هامة جداً وضرورية، لكنها لا تؤتي ثمارها ما لم يكن ثمة حرية اجتماعية، نعني بالحرية الاجتماعية حرية الفرد في معتقده ورأيه ونمط عيشه وأسلوب حياته بلا قِوامة من أحد عليه، المهم ألا يمارس ما يؤذي سواه. شرط الوصول الى هذه الرتبة من الحرية الاجتماعية التي تمثل المدخل السليم الى حرية سياسية ولعبة ديمقراطية حقيقية يعيدنا الى المربع الأول: الوعي. لا يمكننا تحقيق كل ما تقدَّم بلا وعي، ولا وعي بلا معرفة ولا معرفة بلا ثقافة. تحقيق مجتمع مثقف يعني أولاً أفراداً مثقفين، هنا نعود الى مناهج التعليم وضرورة تحديثها وعصرنتها وتخليصها من شوائب التلقين، وحثّ التلامذة منذ صغر سنهم على البحث والشك وطرح الأسئلة وعلامات الاستفهام وعدم الخوف من الجديد والانفتاح على الآخر وعدم رفض المختلف فكراً وعقيدة وجنساً ولوناً وطبقةً وعرقاً، وطبعاً لا يتوقف الأمر على مناهج التعليم بل يتطلب مشروع تنمية بشرية واجتماعية شاملة، فهل يعي أصحاب القرار ضرورة هذا المشروع لوقف مسار الانهيار المريع؟ بغير ذلك سنظل طوائف ومذاهب وعشائر وفئات تتصارع فيما بينها وتتقهقر الى جاهلية أين منها الجاهلية الأولى.
متى احترمنا الفرد كإنسان في معزل عن دينه ورأيه وجنسه وجنسيته وعرقه ولونه وطبقته ساعتها نكون قد وضعنا اللبنة الأولى في عمارة الأوطان الصالحة للعيش.