عدن – إبراهيم مجاهد
لم يكن «سالم» عقب عودته من الغربة يعرف أن الوضع في تعز جنوب غربي اليمن، قد غيّر ملامح المدينة ووجوه الناس فيها وأن أبناء جلدته سيطلقون عليه النار إن هو أشعل سيجارة فوق سطح منزله أو أنار المصباح في إحدى غرفه ليتحسس أشياءه قبل النوم طالما دقت الساعة السابعة مساء ومنزله بالقرب من نقطة تابعة لمسلحي جماعة الحوثي في مفرق طريق تغلق ليلاً عند هذا التوقيت منذ أشهر.
هكذا شعر «سالم» في بضع ليال بأن وطنه مصادر وهو يرى عواصف القلق تعصف بمنزله في ريف تعز مدخل بلدة وهر بمديرية جبل حبشي غربي المدينة. يقول «سالم»: كنت أخرج نهاراً ولم أجد بشاشة الترحاب في الوجوه التي تدّرج تعرجاتها بالغرابة ولسان حال الناس من حولي: «ليته لم يعد»..
«سالم» هو حال كل مواطن قبضت الحرب على أنفاسه طويلاً في تعز، التي باتت تحاصرها المليشيات من كل جانب. ويحذر خبراء مختصون من العمل على نقل الصراع الى الأرياف، حيث يعتبرها بروفسور السياسة والاقتصاد سيف العسلي ضرباً من الجنون.
يقول العسلي إن الحرب في الأرياف ستولد مشاكل معقدة لسنوات طويلة و سيؤدي ذلك إلى ثارات قبلية وأحقاد دفينة بين أبناء الأرياف حيث تنتشر العادات القبلية والأعراف.
ولدى سائقي الدراجات النارية في مدينة تعز، قصص وحكايات.. مآسٍ بنكهة النكتة وبقالب المقالب الصفراء التي تصوغها الحرب في ليالي مدينة تعز المحتدمة بضجيج الموت الراكض في كل شارع.
«فهد» أحد سائقي الدراجات النارية يقول بعد منتصف الليل قابلني شاب قادم وطلب مني أن أقله من منطقة بئر باشا إلى منطقة الحوبان، وما أن وصلنا إلى منطقة محاذية لجولة المرور حتى اندلعت الاشتباكات وصرخ الراكب من خلفي أنه مصاب بعيار ناري.. يقول «فهد» اضطررت إلى أن أعود به وأوصله الى مستشفى «الكرامة» فدخلت على إثرها في «سين وجيم» وتحقيقات ظلت لأيام.. ويضيف أنا مضطر للعمل بـ «الموتور» الدراجة النارية، وسط الحرب الطاحنة لأني أعول أسرة، فأنا أخاطر بحياتي من أجل حياة أسرتي..
«راسل» سائق دراجة نارية آخر يحكي قصة شاب وفد إليه ليلاً قادماً من إحدى مزارع تربية الدواجن غربي تعز.. كان يشكوا انعدام المواصلات وهو مضطر للعودة الى البيت في منطقة «الدمنة» طلب منه إيصاله إلى «مفرق الدمنة» مقابل عشرة آلاف ريال.
يقول «راسل»: كان رفيقي يحمل ديكاً ضخماً جلبه من المزرعة، لم أر في حياتي ديكا بحجمه، حيث اضطررنا لتقييد جناحيه ورجليه حتى يتمكن من حمله على متن الدراجة دون أن يضايقه في الطريق..
يسترسل «راسل»: انطلقنا في الطريق الأولى ولم يسمح لنا بالعبور فاضطررنا لتغيير المسار لنصل إلى طريق هي الأخرى مغلقة، غيرنا الطريق للمرة الثانية فوصلنا الى نقطة مليشيا فمنعونا وفي المرة الثالثة وصلنا الى نقطة مليشيا أطلق أفرادها النار علينا لنتوقف ثم بدأ التحقيق..
وفي قصة أخرى، يقول «راسل» صادف عند الساعة الثامنة من مساء ذات يوم وجود شخصين من أبناء محافظة ذمار – الواقعة جنوب العاصمة صنعاء، وهي المحافظة التي تعتمد عليها جماعة «أنصار الله» في رفد صفوفها بالمقاتلين في تعز ومحافظات يمنية أخرى- وفدا إلى تعز لتحصيل قيمة القات من بائع في المدينة..
كانا يستفسرانه عن مأوى وهو يؤكد لهما ألاّ مأوى سوى الشارع وسط المخاطر أو إن يحملهما إلى العمارة التي يقطن فيها كحارس.. كانا متيقنين من صدق كلامه الذي يلمسانه في الشارع وفي أصوات الرعب القادمة من كل مكان.. لكنهما خائفان من أن يقعا فريسة سائق «موتور سايكل»؛ حيث تكثر الجرائم في مناطق الحروب وينتشر المجرمون ليستغلونها، عدا أن تعز ومنذ أصبحت معبأة بالبارود انتشر فيها أناس يحملون الإنسانية في قلوبهم أجبرتهم لقمة العيش على العمل من أجل إنقاذ أهاليهم وتوفير لقمة العيش. إنهم يعيشون معارك موازية لكنها النضال الأنبل والجهاد الحقيقي..
فمنذ اندلعت الحرب وكل شيء تبدّل فلا طريق مفتوحة ولا مواصلات والفنادق مغلقة ولم يبق سوى الرصيف والشارع وسط النار وصواريخ الكاتيوشا وقذائف الهاون والدبابات، والكلاب المتوحشة المفترسة التي اعتادت على أكل لحوم البشر من أجساد قتلى الحرب الذين يتساقطون في المواجهات.