عودة القرون الوسطى الى أمريكا

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٧/أكتوبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٥ ص
عودة  القرون الوسطى الى أمريكا

فيكتور ديفيز هانسون

يميل بعض المتشائمين الى مقارنة أمريكا المضطربة اليوم مع الإمبراطورية الرومانية أو البريطانية في أواخر عهدهما عندما أوشكت شمس حضارتهما على الغروب. إلا أن المقارنة الأكثر ملاءمة ربما تكون مع أوروبا في العصور الوسطى (ما بين عامي 500-1450). فالعصور الوسطى في العالم والتي امتدت لنحو ألف عام والتي شهدت إنجازات بشرية مدهشة قد شهدت أيضا حالة من انعدام الأمن وانتشار الخرافات ووجود طبقتين وليس ثلاث طبقات.
فالجامعات الكبرى في القرون الوسطى ( في بولونيا وباريس وأكسفورد ) قطعت خطوات واسعة في مجال العلوم، ومع انها لم تكن تختلف عن كليات الطب والهندسة في جامعة هارفارد وستانفورد، إلا أنها لم تكن مراكز للتفكير الحر، وبدلا من ذلك فقد حرصت على صياغة رموز خطاب القرون الوسطى لضمان ألا يساور أحد الشك في سلطة عقيدة الكنيسة. ووضع الأدب الثقافي والسياسي من الماضي الكلاسيكي، من أريستوفانيس الى بترونيوس، تحت الرقابة، وكان ينظر اليه على أنه إما تخريبي أو مؤذ. أما إذا تجرأ أستاذ للعلوم في القرون الوسطى في جامعة بادوا على الشك في عقيدة أن الشمس تدور حول الأرض فهذا قد يعني نهاية حياته.
وبالمثل الآن فإن عددا قليلا في بيركلي أو برينستون هم الذين يجرؤون على التعبير عن تشككهم ما إذا كانت ظاهرة الاحتباس الحراري التي صنعها الإنسان تمثل تهديدا وجوديا محدقا بالحضارة الإنسانية. وخمس الأسر الأمريكية اليوم لا تمتلك أي ثروة على الإطلاق، بينما تكافح الطبقات الوسطى لسداد تريليونات الدولارات لخدمة ديون استهلاكية أو ديون طلاب لدى البنوك الكبيرة، على طريقة الفلاحين في القرون الوسطى.
وفي العصور الوسطى كان الأجراء المعوزين يتعهدون بالولاء للبارونات مقابل الحصول على الغذاء والسكن في القصر، وفي عالمنا اليوم، تقوم الحكومات بتوزيع المستحقات مقابل أن تظهر الجماهير الولاء السياسي في وقت الانتخابات.
وفي أوروبا في العصور الوسطى انتشرت الأمية على نطاق واسع وسادت الخرافة مكان العقل، واليوم على الرغم من إنفاق نحو 11 ألف دولار لكل طالب في كل عام، هل أمسينا نختلف كثيرا؟ أظهرت العديد من استطلاعات الرأي ان أكثر من ربع الأميركيين يعتقدون في علم التنجيم، كما تؤمن نسبة مماثلة أن غرباء من عوالم أخرى قد زاروا الأرض، و40 في المئة لا يعرفون اسم نائب الرئيس، بينما نحو ثلاثة أرباع الأمريكيين ليس لديهم أي فكرة عن أسباب الحرب الباردة.
وكانت النخبة التي تتحدث اللاتينية عندما تتكلم مع الجماهير تستخدم اللهجة العامية المحلية التي تطورت بعد قرون لاحقة وأصبحت الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وهي نسخة القرون الوسطى من الهمهمات الإلكترونية والكلمات المختلقة التي تنتشر الآن على تويتر والبريد الإلكتروني لتشكل لغة شعبية جديدة.
وقسمت أوروبا في القرون الوسطى الى اقطاعيات محلية متحاربة، وتفوقت القبلية على وحدة الدولة، ولا يختلف الأمر كثيرا في تقسيم أمريكا الآن الى ولايات حمراء وأخرى زرقاء بثقافات وهويات سياسية مختلفة. ومع نسيان الحدود القديمة اعتمدت النخب في القرون الوسطى على الجدران الضخمة والخنادق للمحافظة على البقاء آمنة، ما يشبه ما نراه من الولايات التي فرضت سياجا حولها مثل ماليبو ووادي السليكون.
واليوم يقود أصحاب الثروات الضخمة السيارات الفارهة ويسافرون في طائرات خاصة بدلا من ركوب الخيول الحربية الضخمة، وقد يرتدون الجينز والنعال البسيطة بدلا من الثياب الفارهة والتيجان، إلا أن ثرواتهم ونفوذهم تظل بلا حدود كما كان عليه حال أقطاب القرون الوسطى. ويبدو أن مؤسس الفيسبوك مارك زوكربيرج لا يفترض أن سلطات إنفاذ القانون يمكن أن تضمن أمن ثروته ومن ثم يحتفظ بأفراد الأمن الخاص به لحمايته من الأشرار بل ويشتري جميع المنازل المحيطة بمنزله في محاولة إنشاء خندق بمفهوم العصر الحديث.
واستطاع المهندسون المعماريون في العصور الوسطى المتأخرة تصميم كاتدرائيات مهيبة في أماكن مثل شارتر وروان، إلا أن الديون وانعدام الكفاءة والخلافات جعلت عملية البناء تستغرق عدة قرون حتى تكتمل، على عكس بناء البارثينون في السابق.
واليوم نجد مخططات ونماذج خطوط السكك الحديدية عالية السرعة في كاليفورنيا أشبه بخطط بناء الكنائس في العصور الوسطى، وواقع الأمر أن تنفيذ المشروع على أرض الواقع سيتطلب نصف قرن لتجاوز التكاليف والدعاوى القضائية والارتفاع المستمر في الرسوم والضرائب. وفي طرقهم ومياههم كانت الإقطاعيات المنعزلة في القرون الوسطى تعتمد على البنية الاساسية القديمة المتهالكة المتبقية من روما قبل فترة طويلة، وفي أمريكا في القرن الـ21 نحن نعتمد على إنشاءات قديمة- وليس ثمة أمل أن نبني شيئا مماثلا من جديد - مثل سد هوفر ، كما أنه بعيد كل البعد عن التصور أن نبني على سبيل المثال طريقا سريعا جديدا في ثمانية حارات يمتد من الساحل الى الساحل.
ووسائل الترفيه والتسلية في القرون الوسطى مثل المشعوذون والبهلوانات ولاعبو الاكروبات كانت مختلفة عن الترفيه الذي يقدم للوردات من قبل الشعراء والفرق المسرحية، وفي عصرنا نجد تلك الهوة الواسعة بين السيمفونيات وتلفزيون الواقع وبرامج المسابقات وكرة القدم الأمريكية.
بيد أن هناك فرق واحد آخر جوهري بين عالمي العصور الوسطى والحديثة وهو أن الناس الذين عاشوا في العصور الوسطى كانوا يؤمنون بالسمو والروح العالية، وسعوا للحفاظ على الثقافة الفائتة لتظل على قيد الحياة، أما في عصرنا الحالي فالناس يعيشون وبصورة متزايدة لإشباع شهيتهم دون قلق على الأجيال التي ستأتي من بعدهم، وربما لا يدركون حجم ما فقدناه ومن ثم لا يأبهون بكيفية إعادته.

مؤرخ في معهد هوفر في جامعة ستانفورد، وأحدث مؤلفاته: أبانا جميعا: الحرب والتاريخ، القديم والحديث