أفكار بريطانية للعزلة

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١٧/أكتوبر/٢٠١٦ ٢٣:٢٥ م
أفكار بريطانية للعزلة

يواصل أنصار الخروج البريطاني من المحافظين ــ الذين أداروا حملتهم لدفع المملكة المتحدة إلى التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي ــ الثرثرة حول بناء بريطانيا المنفتحة، المتطلعة إلى الخارج، والتي تدعم التجارة الحرة. ولكن المملكة المتحدة تتحول في واقع الأمر نحو الداخل. ويبدو أن رئيسة الوزراء تيريزا ماي، التي تصور نفسها باعتبارها نسخة المملكة المتحدة من أنجيلا ميركل، أقرب شبها إلى مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية اليمنية المتطرفة في فرنسا، وليس مستشارة ألمانيا الأممية.

وقد عرضت ماي رؤيتها لمستقبل بريطانيا في مؤتمر حزب المحافظين هذا الشهر. وتعهدت بإطلاق عملية خروج المملكة المتحدة رسميا قبل نهاية مارس2017، كما أعلنت أن السيطرة الوطنية على الهجرة ــ وليس استمرار العضوية في سوق الاتحاد الأوروبي الموحدة ــ هي أولى أولوياتها في المفاوضات المقبلة حول "الخروج البريطاني". ويضع هذا الموقف المملكة المتحدة على المسار إلى "الخروج البريطاني العسير" بحلول إبريل2019.

وتُصِر حكومات الاتحاد الأوروبي بحق على حرية التنقل باعتبارها ركيزة أساسية للسوق الموحدة، وكانت ميول ماي المعادية للمهاجرين سببا في دفع ميركل وغيرها من زعماء الاتحاد الأوروبي، وخاصة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، إلى اتخاذ مواقف أكثر تشددا مع المملكة المتحدة.

كما انخفضت قيمة الجنيه في أسواق العملات كما ينبغي له، ترقبا للضرر الاقتصادي الناجم عن الخروج البريطاني العسير: فسوف تتسبب الحواجز التجارية المكلفة ــ الضوابط الجمركية، ومتطلبات قواعد المنشأ، ورسوم الاستيراد، والقيود التنظيمية التمييزية ــ في انقسام أسواق المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وتؤثر على ما يقرب من نصف التجارة البريطانية.

ولكن ماي لم تمهد الساحة للقطيعة التامة مع الاتحاد الأوروبي فحسب؛ بل إنها تبنت أيضا رؤية غير ليبرالية بدرجة عميقة لمستقبل المملكة المتحدة، تتألف من التدخل في الاقتصاد، والقومية السياسية، وكراهية الأجانب ثقافيا. وترفض رئيسة الوزراء غير المنتخبة هذه بيان رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون الليبرالي المحافظ (الذي كفل له الفوز بأغلبية برلمانية في العام الفائت)، واحتضان مارجريت تاتشر للعولمة في ثمانينيات القرن العشرين، والتقليد البريطاني الأقدم كثيرا والمتمثل في الانفتاح الليبرالي.

وبعد كونها مؤيدة شبه صامتة للبقاء في الاتحاد الأوروبي خلال حملة الخروج، ترتدي ماي الآن عباءة شعبوية أنصار الخروج البريطاني، فتستهدف "النخب الدولية" والبريطانيين الذين يتحلون بنظرة مستقبلية عالمية. في خطابها الرئيسي في المؤتمر قالت ماي: "ما عليكم إلا أن تستمعوا إلى الطريقة التي يتحدث بها كثيرون من الساسة والمعلقين عن عامة الناس. إنهم يعتبرون وطنيتكم أمرا بغيضا، ومخاوفكم حول الهجرة ضيق أفق، ووجهات نظركم بشأن الجريمة انغلاقا".

وفي ترديد لآراء قوميين من أمثال لوبان وفيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر السلطوي، أكدت ماي قائلة: "إذا كنت تعتقد أنك مواطن عالمي، فأنت مواطن بلا وطن. وأنت لا تفهم معنى كلمة المواطنة". ومن عجيب المفارقات أنها فكرة ماي أن هناك طريقة واحدة للانتماء إلى المجتمع السياسي في بريطانيا وهي طريقة غير بريطانية.

وقد طالبت ماي الشركات التي تتخذ من المملكة المتحدة مقرا لها بتمييز العمال البريطانيين انطلاقا من "روح المواطنة" ــ وهو تعبير آخر لما تسميه لوبان "التفضيل الوطني". وهذا أكثر من مجرد لغة خطابية. ذلك أن وضع مواطني الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة يشكل ورقة مساومة في مفاوضات الخروج البريطاني المقبلة. وتريد ماي عدم إدخال المهاجرين من الاتحاد الأوروبي في المستقبل، والذين تتهمهم بالخطأ بالاستيلاء على وظائف البريطانيين والتسبب في كساد أجورهم. وتذهب وزيرة الداخلية أمبر رود إلى ما هو أبعد من هذا. فقد دعت مؤخرا الشركات التي تتخذ من المملكة المتحدة مقرا لها بوضع قوائم بالموظفين الأجانب العاملين لديها، من أجل "التشهير" بالشركات التي لا توظف "العدد الكافي" من العمال البريطانيين. وكانت عبارة "الوظائف البريطانية للعمال البريطانيين" شعارا استخدمه حزب الجبهة الوطنية العنصري في المملكة المتحدة في سبعينيات القرن العشرين. والآن هناك من يدعمه في مجلس الوزراء.

الواقع أن هذه الشوفينية ليست دنيئة فحسب؛ بل هي حمقاء. فقد أثارت بالفعل نوبات من الغضب والتهديدات من دول أخرى. وفي وقت حيث تعيد شركات عديدة النظر في خططها الاستثمارية بعد الخروج البريطاني، فإن هذا يجعل ادعاء الحكومة بأن المملكة المتحدة مفتوحة للأعمال مجرد أضحوكة. ويبدو أن حكومة ماي تتوقع من سيتي بنك أن يعمل في لندن من دون موظفين أميركيين، ونيسان من دون مديرين يابانيين، والشركات العالمية من دون مواهبها المتنوعة.

حتى أن الأطباء المولودين في الخارج الذين ينقذون أرواح البريطانيين لم يعد لهم مكان؛ إذ تريد ماي أن تكون المملكة المتحدة "مكتفية ذاتيا" في مجال الرعاية الصحية بحلول عام 2025. وبما أن واحدا من كل ثلاثة أطباء في المملكة المتحدة مهاجر، فسوف تعاني البلاد إذا قرر عدد كبير منهم الآن ممارسة مهنتهم في مكان آخر.

كانت خبرة ماي في الحكم مقتصرة على وظائف القيادة والسيطرة، حيث أشرفت على الأمن الداخلي والهجرة بوصفها وزيرة للداخلية في حكومة كاميرون. وهي تبدو جاهلة تماما في ما يتصل بكيفية عمل اقتصاد السوق المفتوحة، ولا تعي شيئا حول تشابك التجارة الدولية والاستثمار والهجرة. فقد تباهت مؤخرا بأن لندن هي عاصمة العالَم المالية، دون أن تعترف بأن الفضل في هذا يرجع في الأغلب إلى البنوك الأجنبية التي توظف عاملين أجانب (أو "مواطني العالم") لخدمة الأسواق الدولية، بما في ذلك سوق الاتحاد الأوروبي.

الأمر الأكثر أهمية هو أن ماي تبدو وكأنها لا تدرك أن ضوابط الهجرة هي في واقع الأمر حواجز تجارية. فهي تسمى "تجارة" إذا أسندت شركة تجارية أعمال حوسبة إلى شركة في الخارج في بنجالور، و"هجرة" إذا قام مبرمجون هنود بنفس الأمر في برمنجهام ــ ولكن العمليات متماثلة. فإذا كانت بولندا متخصصة في البناء، وتريد المملكة المتحدة شراء خدماتها، فلابد أن ينتقل الناس بين البلدين للتجارة.

رسميا، لا تزال الحكومة البريطانية متحمسة بشأن التجارة الحرة. ولكن في الممارسة العملية تكون الأسبقية لسياساتها غير الليبرالية. ويتغلب الخوف من أوروبا على التبادل الحر مع جيران بريطانيا وشركائها التجاريين الرئيسيين، في حين تتغلب كراهية الأجانب على الحاجة إلى العمال الأجانب. ولكن إلى متى قد يظل ما تبقى من أجندة العولمة على قيد الحياة؟ على افتراض أنها قد تجد شركاء راغبين، فإن الشعبوية قد تمنع أي صفقة تجارية تبدو وكأنها تخدم "النُخَب الدولية". وربما تقود النزعة القومية بريطانيا إلى إغلاق الباب في وجه الاستثمارات الصينية أيضا.

لقد اختار الناخبون البريطانيون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ولكنهم لم يحددوا كيف؛ وعلى هذا فإن ماي لا تملك تفويضا انتخابيا يسوغ لها التحول نحو توجهات معادية لليبرالية. ولكن معارضتها الرسمية متمثلة في حزب العمال الذي لم يعد قابلا للاستمرار انتخابيا بعد أن استولى عليه اليسار المتشدد. وما لم يتمكن الديمقراطيون الليبراليون من العودة، فقد تحتاج بريطانيا إلى حزب سياسي جديد (أو تحالف بين أحزاب) للنضال من أجل دولة ليبرالية متسامحة تتطلع إلى الخارج.

المستشار الاقتصادي الأسبق لرئيس المفوضية الأوروبية