موسيقى «الروح» الخفية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٦/أكتوبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٥ ص
موسيقى «الروح» الخفية

محمد بن سيف الرحبي
www.facebook.com/msrahby
alrahby@gmail.com

في «نايات» الشاعر الصوفي العظيم جلال الدين الرومي أجد ضالتي لإطلاق عزف روحي منفرد قوامه الشعر وهو يسكب عبقه على مسام الروح، بمنأى عن القلب والعقل، حيث لا يمكن رؤية الحبيب بهما قدر ما تستطيعه روح الإنسان وهي تلج محيط العشق.

لا تكفي قـــراءة المقطع مرة واحدة، رغم المعنــى القريـــب أحيانا، لكن يبدو أنه بعيد بما يحتاج تكـــرار قراءته لأن هناك معنى لم تصل إليـــه العيـــن بعد، ولم يدركه الفؤاد كمـــا يستحق، إنما لزاما على الروح أن تتلامس مع معناه كي تقرأه على مهل، وتذوب في شجن الناي، كما نفخ في مزماره ذلك العبقري المتصوف.
عاش الرومي قبل أكثر من سبعمئة عام، لكن شعره لا يزال جوّالا في لغات العالم وهي تبحث عن أسرار تلك الروح المتجلّية، فيما بقيت علاقته بشمس التبريزي علامة حيرة، وقد تبتلت قصائد كثيرة للشاعر في شوقه لشمس، كأنما هو معراجه للعشق في سماوات لا يراها المرء إلا عبر روحه.

«لقد جاء شمسي /‏ شمسي وقمري، وبصري وسمعي» إلى أن يقول «مم أخشى بعد أن جاء /‏ درعي وماء حياتي»، لتتمــازج رقصــة الدرويش مع لوحة أخرى ترسمها حروف نورانياته «ابك، ابك على الذين أداروا ظهورهم للعشق. يا له من يوم رائع، يا له من يوم عظيم، يوم النشور».

من الصعب الادعاء أن اجتياز فلوات القصيدة في لوحات جلال الدين الرومي سهل وممكن، فالغموض في سيرة الشاعر المتصوف والتقائه مع شمس، يتلاقى مع رؤية المتصوفة للعشق وارتباطه بالذات الإلهية ورؤية الإنسان كجزء من هذه الذات الكبرى وآية من آياتها الكونية الكبرى، وهو ما يسمو بأجساد البشر لتبدو أرواح هائمة باحثة عن مجدها /‏ خلودها في الإخلاص لعشق لا يصله إلا قلة انكشفت لهم حجب «العشق يعني أن تصل إلى السماء/‏ وبكل نفس لتمزق ألف حجاب. العشق يعني أن تخطو بعيدا عن النفس، وأن تفتح عيون بصيرتك الداخلية، وأن لا تأخذ هذا العالم بجدّية».

من النصوص العذبة التي قرأتها في ديوانه «الموسيقى الخفية»:

النسيم العليل الذي يهب قبل الفجر، هو الذي يحفظ الأسرار، لا تعد إلى النوم! فقد حان وقت الصلاة، آن الأوان لأن تطلب ما تحتاج إليه. لا تعد إلى النوم! فباب الواحد الأحد الذي خلق العالم مشرع على الدوام، لا تعد إلى النوم.
وفي مقطع آخر:
لقد أصمك صوت الشهوة
ولا تعرف أن الحبيب يعيش
في صميم قلبك.
أوقف الضجيج وتسمع صوته
في الصمت.
هكذا تبدو الموسيقى، كالمعنى، واضحا لنسمعه، ولكن خفيا بما نحتاج إلى رؤية، لا إلى أذن لنسمعه:
متواريا عن الجميع،
سأحدثك من دون كلمات.
لن يسمع أحد سواك قصتي،
حتى لو رويتها في وسط الجمع.