إسلامُ الرحمة

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠٩/أكتوبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٥ ص

زاهي وهبي

ليس هيناً ولا قليلاً ما يتعرض له الإسلام والمسلمون من هجمة شرسة متواصلة منذ عقود طويلة، أخذت في الآونة أشكالاً أكثر مكراً ودهاءً. هجمة باتت تتشارك فيها بقصد أو بدونه مجموعة من القوى التي تتقاطع مصالحها على ألّا تقوم قائمة للعرب والمسلمين انطلاقاً من خلفيات متعددة منها التاريخي ومنها الراهن ومنها ما له علاقة بالمستقبل حيث تتسابق القوى الاستعمارية العظمى وتتصارع لأجل أن تكون لها الغلبة وكي يستمر نفوذها وسيطرتها المباشرة أو غير المباشرة على بلادنا وثرواتنا وخيراتنا إلى آجالٍ غير معلومة.
الأشد مضاضة في هذه الحال ليس فقط ظلم ذوي القربي بل أهل الإسلام نفسه، ليس السواد الأعظم من عامة المسلمين، بل أولئك المتحولين كهنوتاً و"أكليروس" علماً أنه لا كهنوت في الإسلام، وعلى وجه الخصوص منهم فقهاء الظلام الذين يجعلون من الدين أداة للتحكم والسيطرة على الجموع المنقادة خلف غرائزها وعصبياتها، لأجل تحقيق مكاسب ومنافع ذاتية. وعِوَضَ أن يساهموا في تنوير الناس وحثِّهم على العلم والمعرفة ومراكمة الوعي الفردي والجمعي، يعممون الجهل والكراهية وينشرون التعصب والتخلف ويُثيرون الفتن والشقاق لكي يضمنوا بقاءهم في سدَّة السيطرة على تلك الجموع التي باتت تُقدِّسهم أكثر من تقديسها النصّ نفسه وتمشي خلال ضلالهم بلا وعي ولا تفكير.
لا يكتفي فقهاء الظلام ببثّ أفكارهم وقراءاتهم المتحجرة لمعنى الدين وجوهره النبيل، بل يتصدون بعنف لأي أفكار تنويرية ويقمعون كل اجتهادٍ مختلف ومغاير لما يبثونه من جهل وتخلف في عقول الناس. منذ جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده إلى طه حسين وصولاً إلى عبدالله العلايلي ويوسف الصدّيق وإسلام البحيري يتم اسكات كل صوت يدعو لإعمال العقل وتحرير الإنسان من براثن الجهل والخرافات، وقراءة النصّ الديني قراءة جديدة معاصرة على ضوء المستجدات والمتغيرات التي جعلت الأمم والشعوب تسبقنا بأشواط ضوئية، ويقيمون جداراً سميكاً أمام أي محاولة جدية للبحث عن كوى الخلاص مما نحن فيه، ويطمسون عمداً كل ما في موروثنا من إعلاء لشأن العلم والمعرفة ودعوة للتسامح والغفران وحثٍّ على الانفتاح والحوار وقبول الآخر والمجادلة بالتي هي أحسن.
ما ندعو إليه لا يَمسّ أصل العقيدة بشيء، ولا يخدش طهر العلاقة مع الله، بل يُجلّ تلك العلاقة وينزهها عن الغايات الدنيوية ويضعها في المنزلة السامية التي أرادها الخالق لعلاقته بالناس حين بعث إليهم الأنبياء والرسل رحمة للعالمين. هذه الرحمة بالذات هي جوهر الدين الحنيف، لكن أمام ما نشهده من ويلات وكوارث وحروب وقتل وتدمير وتهجير وتشريد من حقنا التساؤل أين هي تلك الرحمة، لماذا يُطمَس كل ما له علاقة بها ويُتجاهَل ما في الكتاب والحديث من دعوات جلية صريحة إلى الرحمة والمودة والتلاقي، ألم يجعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف، أي لنتحاور ونَقبَلَ بَعضنا بعضاً. فلماذا تمت تنحية كل هذا الجانب المشرق في الأصول والموروث وارتفعت لغة التكفير والإقصاء والإسكات؟
لا غرابةَ إن تمنّى الناس في هذا الشرق العربي إعفاءهم من جحيم الآخرة لأنهم يعيشونه هنا في الدنيا وعلى الأرض بفعل الأهوال والحروب التي تدور بهم وعليهم، وبسبب أزمات متراكمة متناسلة موروثة من زمن الاستعمار المباشر ومتفاقمة بفعل التبعية والتخلف والاستبداد، ونتيجةً حتميةً لِقمع الأصوات المختلفة والمغايرة، وللتمادي في عدم قبول الرأي الآخر المعترِض والمعارض. أزمات لم تفلح (أو لم تُرِد) في حلّها السلطات المتعاقبة رغم إختلافها وشدة خلافاتها في ما بينها. ومع ذلك يبدو كلُّ ما عشناه من أهوالٍ ماضية هيناً أمام ما يواجهنا من تحديات كارثية لعل أخطرها التفتت المجتمعي القاتل الذي يُعمِّق أزماتنا ويطيل أمدها ويعطِّل إمكانات حلِّها والخروج من أنفاقها المظلمة. والمستغرب أن أهوالاً مصيرية تواجه شعوبنا ومجتمعاتنا لا تجد صداها في خطاب فكري/فقهي يرقى إلى مستوى التحديات ويسترد راية الدين الحنيف من سارقيها الظلاميين وزاعمي السير على منهاجها. جُلّ ما نسمعه إدانات خجولة وأقوال مكررة مثل: هذا ليس إسلامنا، وهؤلاء لا يمثلون الإسلام الحقيقي، الإسلام برآء منهم، وسواها من مواقف ترفض ما يجري تحت راية "لا إله الا الله"، لكنها لا تقترح مخارج حقيقية للخلاص من هذا الآتون، والأهم منع تكراره بعد عشر أو مئة من السنوات، كي لا يظل التاريخ يعيد نفسه في بلادنا، ودائماً على شكل مأساة.
لم يعد ثمة مجال للقفز فوق الأسئلة الملِّحة والضرورية للخروج مما نحن فيه ولمواجهة المشاريع الاستعمارية الأكثر خطورة مما مضى لأنها لم تعد تقتصر على القوة بمفهومها العسكري، بل صارت أكثر اتكالاً على القوة العلمية والمعرفية. فالاستعمار الجديد يأتينا على هيئة ثورة معلوماتية هائلة كل مساهماتنا فيها أننا مستهلكين لها. ولعل أكثر المعنيين بتلك الأسئلة المفكرون والفقهاء الذين من واجبهم الإيماني والإنساني والأخلاقي الإجابة على أسئلة من نوع: كيف نُصوِّب مفهوم الجهاد استناداً إلى قراءة معاصرة للنص؟ ما هو الموقف من السبيّ والغنائم؟ من الذبح والحرق أو التحريق؟ من الرّق والعبودية والعنصرية وسواها من عناوين ملّحة؟ ما هو الموقف الفقهي الواضح من الآخر المختلف ديناً وعقيدةً وأسلوبَ عيشٍ ونمطَ حياة؟ ما هو الموقف من حقوق المرأة ومن العنف المادي والمعنوي المُمارَس بحقها؟ علامات الاستفهام كثيرة ولا أجوبة شافية، ليس لأن النص لا يحمل في جوهره ولا يستبطن أجوبة لمثل تلك الأسئلة، بل لأن التفسير حلّ مكان النص وتقدّم عليه، على الرغم من كونه، أي التفسير، قد تقادم وتقادمت أدواته ومنطلقاته التي لم تعد بالضرورة صالحة أو متناسبة مع وقائع العيش وتطور الحياة حيث لا يجوز ولا يمكن أن نواجه القرن الحادي والعشرين بأدوات قرونٍ غابرة.
لِكي يظلَّ الإسلام صالحاً لكل مكان وزمان، وهو كذلك بوصفه تجربة روحية وعلاقة إيمانية مع الله، لابد من قراءات تجديدية على ضوء المكان والزمان، قراءات لا تمسّ بأي شكل من الأشكال أصل العقيدة وجوهرها الذي هو أصلاً جوهر رحمة. بل تستخرج ما تكمن في العقيدة من سمو ونبل وإعلاء لشأن الإنسان، وهي ملِّحة وضرورية حفاظاً على العقيدة ودفعاً لما يستهدفها ويُحاك ضدها. فالإسلام المستنير المزدهر المنفتح المنتج للعلم والثقافة والمعرفة يخيف القوى الاستعمارية أكثر بكثير من الإسلام الضعيف المتقوقع والمنغلق على نفسه. نحتاج تجديداً فكرياً وفقهياً مستمراً ليس فقط ليظل ديننا متصالحاً متناغماً مع الحياة ومستجداتها، ولكي يقدم أجوبته الشافية على الأسئلة السالفة والملّحة، بل أيضاً لمواجهة الهجمة الشرسة التي تريد إلصاق كل أمر سيّء بالإسلام والمسلمين لكي لا يستعيدوا مكانتهم الحقيقية المرموقة بين الأمم كأهل عقل وفكر ومعرفة.
لن يجدي نفعاً الاستمرار في لَيّ عنق التاريخ ليتناسب حاضرنا مع ماضي السلف وما سنَّه في تعامله مع وقائع الحياة الدنيا. كما أسلفنا ما من شكّ في كون موروثنا يكتنز الكثير من الإيجابيات والمرتكزات التي لا غنى عنها ولابد منها، لكنه في الوقت نفسه محمّلٌ بكثيرٍ من سقط المتاع وهنا لُبّ المشكلة.حيث لا يطيب لمتصدري المشهد ورافعي الراية زوراً وبهتاناً سوى التركيز على نصوص لها أسبابها وحيثياتها التنزيلية والتأويلية (والتاريخية، وهذه مهمة جداً) وتجاهل أخرى قد تكون أكثر ملائمةً لوقائع عيشنا الراهن، وهَنا بالظبط يتلاقى فقهاء الظلام مع رعاة الإرهاب العالمي الذين صار يستعملون التيارات المتطرفة عِوَض جيوشهم في تدمير البلدان وتفتيتها والسيطرة عليها مِن بُعد، يلتقون في تعميم جانب معين من موروثنا وإهمال كل الجوانب المضيئة الأخرى.
لنضرب مثالاً سبق لنا أن أشرنا إليه في مقالة سابقة هنا حملت عنوان "أين فقهاء النور؟، مثال يتعلق ببعض المفردات التي ترد في القرآن الكريم: مفردة الرحمة ٢٨٦مرة والرحيم ١١٥مرة والحُبّ ٧٦ مرة والسلام ٥٠ مرة والعدل ومرادفاتها أكثر من ٥٠ والعقل والنور ٤٩ مرة لكلٍّ منهما. ودائماً نؤكد أن تعداد هذه المفردات ليس الغاية منه رياضية ولا حسابية ولا حتى البحث عن مكامن إعجازِ مُحكم التنزيل، بل بهدف التأكيد على ما يدعو اليه النص القرآني من رحمة وحُبّ وسلام وعدل وانصاف وتركيزه على ضرورة إعمال العقل والبحث عن مكامن النور، لأنه ما كان الا رحمة للعالمين. وفي الحديث الشريف "هدم الكعبة سبعين مرة حجرا حجرا أهون عند الله من سفك دم امرىءٍ بريء".
هنا نستطيع القول هذا هو الإسلام الحق وهذه غاية رسالته، وثمة مفكرون وفقهاء ينتصرون لهذا الجانب المشرق من النصّ ويقدمونه على ما عداه انطلاقاً من فهم عميق للإسلام ولغايته الأساس: رحمة العالمين. هؤلاء الفقهاء والمفسرون يجب إعلاء شأنهم وأصواتهم لأجل فتح آفاق الخروج من المأزق وفتح منافذ النور والحب والسلام، ولا إيمان حقيقياً بلا حُبّ.