احمد المرشد
اعتدت أن اكتب عن زعيم مصر والأمة العربية خالد الذكر جمال عبد الناصر في ذكري وفاته من كل عام، وفي كل مرة أركن الي أفكاري عن هذا القائد الفذ، بطولاته، إنجازاته، لمصر والعرب وإفريقيا وكل شعوب العالم المقهورة تحت نير الإستعمار الأجنبي، وهو ما رفعه الي مصاف الزعماء الذين لا يموتون بموتهم الجسدي، فتظل ذكراهم وبطولاتهم ماثلة أمام الجميع علي مر الزمن..فقبل أيام مرت الذكري السادسة والأربعين لرحيل ناصر عنا، ولكن الرجل وكما أسلفت لا يغيب، ولعلي اعتمد في كتاباتي اليوم عما كتبه المقربون من ناصر والمؤرخون عنه، ونقل صفات الزعامة في حق هذا الرجل حتي بعد نكسة 1967 التي لم تجهض أحلامه بضرورة خلق أمة قوية وإن كانت هذه النكسة أثرت عليه نوعا ما حيث تكالب الغرب للإنقضاض علي "مشروع ناصر" الذي بدأه في عام 1952..وقد أضيف هنا من عندي، إنه ربما يكون عبد الناصر أخفق في مواجهة إسرائيل في حرب 1967 بسبب مؤامرات كثيرة للنيل من عزيمته، ولكنه - ولهذا شهادة للتاريخ – لم يمت إلا وكان قد أعد العدة للجيش المصري استعدادا لمواجهة العدو، وهذا ما سنفرد له مساحة في مقالنا وكيف استعادت القوات المسلحة المصرية الثقة الكاملة لتحقيق نصر اكتوبر في عهد خلفه الرئيس أنور السادات.
لقد كتب سكرتير عبد الناصر وزير الدولة لشئون الرئاسة في عهده سامي شرف، نقلا عن فلاسفة وكتاب هنود وأوروبيون الكثير، ليصورو المقومات التي اكسبت ناصر بريقا شخصيا جعلته قريبا من الرأي العام المصري والعربي والإفريقي والعالمي، فناصر فى التاريخ الحديث انحاز لمبدأ "الشعب أولا" فكان هذا عاملا رئيسيا في استمرار كاريزما هذا الزعيم الي يومنا هذا مما جعله "حبيب الملايين"، وهذا أيضا ما ردده نحو 7 ملايين مواطن شيعوه الي مثواه الأخير في يوم جنازته. وهنا نقرأ للكاتب الفرنسى جان لاكوتير عن ناصر الذى كان على صلة ومعرفة كاملة بشخص الرئيس منذ أن كان مراسلا لجريدة لوموند الفرنسية بالقاهرة ، فى كتابه " ناصر "، يصف أحداث تشييع جنازته :" إن هذه الجموع الغفيرة فى تدافعها الهائل نحو الجثمان إلى مثواه الأخير لم تكن تشارك فى تشييع الجثمان، لكنها كانت فى الحقيقة تسعى فى تدفقها المتلاطم للاتصال بجمال عبد الناصر الذى كانت صورته هى التجسيد المطلق لكينونتها ذاتها ".
إنه ناصر الذي وصفه رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو:" إن ما أحبه فى ناصر انه يتعلم دائما. . يتميز بصدق مطلق ونهمه متصل للمعرفة ، وشجاعته حاضرة ، وهذا ما جعله رجل الفكر والعقل والفعل المؤهل لقيادة أمة فى حقبة حاسمة " . وسنظل مع ناصر في الهند، حيث قال عنه الكاتب الهندى ديوان برندرانات فى كتاب " ناصر الرجل والمعجزة" : "إن التاريخ المعاصر للعالم العربى وخاصة مصر وتاريخ حياة ناصر لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر".. ويزيد الكاتب البريطانى توم ليتل :" قوة منطق ناصر مستمدة من قوة منطق التاريخ "..
يربط سامي شرف، ناصر بتراب الوطن وتاريخه، مما ساهم بصورة كبيرة في صياغة صورته الجماهيرية التزامه بقضايا الوطن ومسارعته بالدفاع عنها، وهذا ساهم أيضا في نفس الوقت في تصدير صورة ناصر الي بقية بلدان العالم، وينقل شرف عن الدكتور أنيس صايغ فى كتابه "فى مفهوم الزعامة السياسية من فيصل الأول إلى جمال عبد الناصر" جملة غاية في الروعة والتقدير لشخص ناصر، فكتب صايغ يقول : " استطاع عبد الناصر أن يمثل أغلبية الشعب تمثيلا صادقا، وأن يدافع عن الأمانى القومية دفاعا حقيقيا ، واستطاع بواسطة ذلك أن يتحول إلى رمز للحركة الوطنية المعاصرة..إن زعامة عبدالناصر تختلف من حيث المادة التى تتركب منها ، إنها تنبثق عن الشعب ، عن مجموع طبقاته وفئاته وأفكاره .. وهى تنبثق عن أمانى الشعب، عن مطالبه التى نادى بها منذ قرن على الأقل ، وعن شعاراته التى رفعها منذ أن عرف العمل السياسى الحديث ، وعن أحلامه التى أخذت تتراءى له منذ أن أقلقت باله كوابيس التخلف والاستعمار والتفرقة والفاقه، وعن تراثه وكيانه القومى ومصالحه العامة ، إنها باختصار ، تمثل أغلبية العرب ".
شجاعة هذا الزعيم لم تأت من فراغ، فهي إحدي سمات شخصيته القوية مما زاد حب المصريين والعرب له ، فكان الزمان فى السادس والعشرين من اكتوبر 1954 ، أما المكان فهو ميدان المنشية بمدينة الإسكندرية المصرية..وأما الحدث – أو الحبكة كما يقول أهل الدراما – عندما انطلقت ثمانى رصاصات فى سماء الميدان نحو صدر عبد الناصر، فلم يخش ولم يرتعش وإنما ظل واقفا صامدا يتحدي رصاص الغدر و الاغتيال والقاتل .. لم يتراجع عن مكانه ولم يتوار خلف أو أسفل المقاعد ولكنه ظل واقفا بقوة وسط دوى الطلقات، وصاح قائلا للجماهير المحتشدة فى الميدان: "فليبق كل فى مكانه . . إننى حى لم أمت ، ولو مت فإن كل واحد منكم هو جمال عبد الناصر . . ولن تسقط الراية".. حقا لم تسقط راية ناصر حتي يومنا هذا، ولا زلنا نكتب عنه وعن شجاعته وشخصيته التي استمدها من حب شعبه وشعوب المنطقة له..حب وشعبية استند عليها ناصر على أساس من القناعة الراسخة بعظمة الجماهير التى يسعى لقيادتها وأمله فى إمكانية تحقيق مستقبل مبشر ومشرق لها، جماهير وفرت له قاعدته الجماهيرية.
سبق وقلت أن ناصر لم يمت إلا وكان قد أعد العدة للجيش المصري استعدادا لمواجهة العدو الإسرائيلي، وها نحن نوضح ما كتبته في البداية، وكيف حققت القوات المسلحة المصرية النصر في حرب اكتوبر، وفقا لخطة ناصر التي توفاه الله وهو قد انتهي منها تقريبا بما مهد المجال للسادات للدخول في هذه الحرب وهو واثق من تحقيق النصر. فقد رفض عبد الناصر بعض المبادرات الدولية لإنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي سياسيا وأصر على عودة الأراضى العربية كلها وعلى الوصول إلى حل شامل لهذا الصراع..وبناء علي رؤيته لمفهوم الأمن القومى العربى الجامع لكل الدول العربية وإيمانه الكامل بأن المصالح العربية مشتركة وواحدة، فقد رفض بشدة أن يخرج من عروبته وأن ينعزل بمصر، لذا بدأ التخطيط لرد الاعتبار والثأر مما حدث في حرب يونيو 1967.. وكان أول ما صرح به، بل أكد عليه هو أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. وقد منحه القدر منذ تاريخ النكسة وحتي وفاته في سبتمبر 1970، ثلاث سنوات أنجز فيها ما أدى لصنع أسطورة العبور.
الحديث عن ناصر ومساهماته في بناء مصر الحديثة يطول ويطول، ونكتفي بما أوردناه في ذكري وفاته الـ46 ورحيله عن عالمنا، ولكن رحيل أكسبنا قوة وإصرار علي استكمال الطريق نحو النصر، ولعلي أضيف هنا أن انتصار مصر والعرب في حرب اكتوبر يؤكد لنا ضرورة أن يعيش العرب متحدين وعلي قلب رجل واحد، وليسوا متشرذمين، متفرقين، وقد أثبتت لنا السنوات الأخيرة، أن عدونا واحد لا يتغير، هذا العدو هو الفرقة، فالفرقة أضاعت العراق وسوريا واليمن وليبيا.
كاتب ومحلل سياسي بحريني