عدت من الصين، أكثر بلدان العالم ثروة بشرية، وأقول ثروة، ولا كلمة غيرها أراها مناسبة لوصف هذه الحالة البشرية التي حوّلتها بلاد التنين من محنة تثقل اقتصادها إلى منحة ترفع منسوب انسياب العملات الصعبة إليها من كل حدب وصوب، بسبب من هذه القدرات البشرية المنتجة، التي غلّبت ثقافة العمل على مفاهيم الإحباط والشكوى والتذمر (ومقاهي الشيشة) والحديث المغرق في السياسة والاقتصاد، ممّن يعرف.. وممّن لا يقرأ حتى عناوين صحيفة يومية.
لم يكن مصادفة أن أجد مطعما يمنيا يقدم الشيشة كما هو الحال في المقاهي العربية في لندن أو باريس أو موسكو أو غيرها من العواصم التي صدّر إليها أبناء الضاد هذه الجلسات لتستقبلهم أينما حلّوا وارتحلوا، وما أكثر الجالسين على كراسي المقاهي، تاركين الكراسي المهمة في بلدانهم للقيادات السياسية تنظف البلد من ثروتها، وتدّعي أن عدد السكان كبير فيها، ويمثلون تحديا اقتصاديا خطيرا.
أتذكر البلد العربي (القيادي) مصر، عدد السكان يقارب التسعين مليون شخص، أي سكان مقاطعة صينية، لكن مستوى (الإفقار) لا الفقر مدهش حيث يعيش أكثر من نصف عدد السكان في مستوى خط الفقر أو تحته، وأسوق هذا المثال لأقارب حالتنا العمانية، فعددنا يتجاوز المليونين قليلا، ومع ذلك فإن التحديات أمامنا في سوق العمل خطيرة، لأننا نربّي طالبي وظائف لا طالبي عمل، وكلما كانت حكومية اقتربت أكثر من مفهوم الوظيفة (المضمونة) حيث الدولة عليها أن تدفع، وصل سعر برميل النفط إلى 150 دولارا أو هبط إلى ثمانية دولارات كما حصل قبل عقدين من الزمان.
بدت لنا الوظيفة الحكومية استحقاقا على الدولة أن توفره، ومع تنامي عدد السكان، وخريجي الدبلوم العام والشهادات الجامعية فإن التحدي "السكاني" يمثل خطورة على مستقبل البلاد، لان الرؤية محدودة لمواجهة ارتفاع عدد السكان من مليونين إلى ثلاثة ملايين، يزاحمهم في سوق العمل ثلاثة ملايين عامل أجنبي، لا تكمن خطورته أنه عامل فقط، وإنما لأنه ممسك بسوق العمل الحقيقي، والذي يدرّ أضعاف ما تعطيه الوظيفة الحكومية.
هل لدى الحكومة رؤية للسنوات الخمس المقبلة، مع ضغط أكثر من ربع مليون خريج على سوق عمل محدود كونه مغلقا على اللوبي الآسيوي، بشراكة من مواطنين يعيشون وهم "الربح" بالفتات الذي يرميه "الفورمان" أو الشريك الأجنبي في جيوبهم بينما يطير بالربح الدسم بعيدا عنهم، وفي حالات كثيرة "اختلست" الأموال، وأمام القضاء وقف صاحب السجل التجاري (المواطن) عاريا.. إلا من ديونه، والاستحقاقات التي على المؤسسة المفلسة دفعها.
والرؤية تشمل (كما أفترض) مراعاة التوازن السكاني، بين المواطنين والأجانب، فكيف بدولة عدد سكانها مليونان، وأجانبها مليونان.. وتتبنى "المباعدة بين الولادات"؟! و"التنظيم السكاني"؟!.. وهي شعارات منمقة لتقليل الزيادات السكانية، مع أن (المتوقع) أن تتحول الكثافة السكانية إلى نمو اقتصادي وحضاري يضيف للبلد، لا يضغط عليها "توظيفيا"!!