الولايات المنقسمة الامريكية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٥/سبتمبر/٢٠١٦ ٢٣:١٨ م
الولايات المنقسمة الامريكية

أ.د. حسني نصر

يفاجئك الأمريكيون أحيانا بالرؤى والأفكار الغريبة بمعاييرنا العربية، والتي يقومون بطرحها على صفحات الصحف الكبرى بحرية ودون خوف من المساءلة والمحاكمة. بعض هذه الأفكار قد تمثل جريمة أمن دولة في دول أخرى كثيرة في العالم، يتم مطاردة أصحابها واعتقالهم، وربما جرهم إلى المحاكم العسكرية ومواجهة سلسلة طويلة من الاتهامات تصل إلى حد الخيانة العظمي.
من هذه الأفكار ما طرحه الكاتب لي دروتمان في صحيفة نيويورك تايمز الخميس الفائت حول فشل النظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية القائم على الحزبين، ودعوته إلى مراجعة ما يمر به من مشكلات وإصلاحه. وقد حمل مقال الكاتب عنوانا لافتا هو "الولايات المنقسمة الامريكية" في مقابلة ذات مغزى مع "الولايات المتحدة الامريكية". ويبني الكاتب رؤيته على أساس أن المنافسة الانتخابية بين الحزبين الرئيسيين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة لم تعد قائمة كما كانت من قبل. وبدلا من أن تكون الولايات المتحدة الامريكية هي دولة الحزبين، أصبحت دولتي حزب واحد، في إشارة إلى سيطرة كل حزب على مناطق ومساحات من الدولة لا ينافسه فيها الحزب الأخر. ويستدل الكاتب علي ذلك بان معظم المدن الكبرى وولايات الساحل الشمالي الشرقي والساحل الغربي أصبحت مناطق نفوذ متزايد للحزب الديمقراطي، فيما يسيطر الحزب الجمهوري على معظم ولايات الجنوب وولايات الجبال والمناطق الريفية الواقعة بينها. وبدلا من أن يتنافس الحزبان بشكل مباشر فان كل منهما يحتل الأراضي التي يسيطر عليها ولا ينازعه فيها الحزب الثاني، وهو ما يجعله يعمل دون رقابة او معارضة أو مساءلة من أحد.
وعلى سبيل المثال فان مجلس النواب الذي يعد المجلس النيابي الشعبي الأول أصبح يُشكل على أساس من عدم التنافس الحزبي، ومن بين 435 مقعدا فإن المنافسة الحقيقية بين الحزبين تنحصر في 25 مقعدا فقط. وتمتد عدم المنافسة إلى الانتخابات الرئاسية، حيث يتجاهل مرشحو الرئاسة غالبية ولايات الدولة، ويركزون فقط علي عدد قليل من الولايات التي ينقسم فيها الناخبون بين الحزبين بشكل كبير، كما تمتد إلى انتخابات حكام الولايات، إذ لم يواجه 43 بالمائة من المرشحين لهذه المناصب في انتخابات العام 2014 منافسة تذكر من مرشحي الحزب الأخر، وهو ما جعل هذه الانتخابات واحدة من أقل الانتخابات تنافسية خلال عقود.
الجميل في الأمر أن لا أحد اتهم الكاتب بالترويج لأفكار هدامة تهدد امن الدولة، او التحريض على نظام الحكم القائم ومحاولة هدمه او غيرها من قائمة التهم المعلبة والجاهزة التي يواجهها الصحفيون والكتاب في عالمنا العربي إذا جاهروا ببعض الحقيقة. والواقع أن المجتمع الأمريكي يفرق بشكل جاد وحاسم بين المعارضة من داخل النظام وبين المعارضة من خارج النظام. المعارضة الأولي تقبل بالنظام وتعمل بقواعده وتدافع عن وجوده واستمراره، وتتنافس مع من في الحكم للعودة إلى السلطة في الانتخابات التالية، وبالتالي فإنها تستهدف إصلاح النظام القائم، وهو ما يصب في صالح الجميع مواطنين وأحزاب وحكومة ودولة. وترحب النظم الديمقراطية بمثل هذا النوع من المعارضة التي تصحح المسار وتحافظ علي سلامة نظام الحكم وتحقق الشفافية السياسية وتضمن سرعة تصحيح الأخطاء أولا بأول. أما المعارضة الثانية التي تأتي من خارج النظام فإنها لا تقبل بالنظام القائم من الأساس وتستهدف إسقاطه وإحلال نظام جديد مكانه، وهي معارضة تقوم بها في الغالب حركات وجماعات تعرف في الفكر السياسي بجماعات الرفض السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وتمثلها حركات وجماعات دينية ومذهبية وأيديولوجية، وهي معارضة غير مرحب بها في كل الأنظمة السياسية في العالم بما في ذلك النظام الأمريكي. مشكلتنا في العالم العربي أننا لا نلتفت إلى هذه التفرقة الامريكية المهمة وننظر إلى كل نقد يوجه إلى الحكومة حتى وان كان يتصل بفشلها في تنظيف الشوارع، وكل دعوة إلى الإصلاح حتى وان كانت دعوة صادقة ومخلصة، على أنها معارضة من خارج النظام تريد القضاء عليه. الغريب أن بعض الدول العربية مارست أثناء خضوعها للاستعمار الأوروبي هذه التفرقة الواضحة بين المعارضتين، فضمنت لأصحاب المعارضة الأولي حريات الرأي والتعبير بما في ذلك مهاجمة الحكومة والدعوة إلى إسقاطها، فيما جرمت وحظرت المعارضة من خارج النظام، ووقف الجميع حكومة ومعارضة في وجهها. وعلى سبيل المثال وليس الحصر عرفت مصر في الفترة الليبرالية الممتدة من العام 1923 وحتى استيلاء الجيش علي السلطة في يوليو 1952 النوعين من المعارضة، إذ كان هناك تنافس حزبي قوى على السلطة بين حزب الوفد وبين مجموعة من أحزاب الأقلية، وكانت هذه الأحزاب تتداول الحكم استنادا إلى صناديق الانتخابات، مع وجود جماعات وحركات سياسية واجتماعية كانت ترفض النظام القائم وتعمل من خارجه مثل الحركات اليسارية والاشتراكية والإسلامية. وبانتهاء هذه التجربة الليبرالية الثرية عادت الدولة المصرية إلى جمع كل المعارضين في سلة واحدة، واعتبار كل نقد موجه إلي الحكومة والنظام جريمة، وهو ما أدي إلى تغييب حرية الرأي والتعبير والصحافة، وبالتالي توقف كل أشكال الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والتراجع الذي نراه الآن على كل المستويات.
من الضروري في هذه المرحلة التي تواجه فيها الدول العربية اختبارات صعبة تصل إلى حد الاقتتال الأهلي، أن نتعلم من تجارب الآخرين، وان نفتح نوافذنا الإعلامية للنقد الذاتي البناء والمعارضة الواعية المستنيرة التي تستهدف الصالح العام، دون خوف او قلق من أن تؤدي إلى سقوط الأنظمة. لقد علمتنا التجارب المريرة التي تمر بها دول عربية عديدة حاليا أن النظم السياسية لا تنهار بالممارسة الديمقراطية الصحيحة، وإنما تنهار عندما تغيب هذه الممارسة التي من شأنها أن تصحح المسار وتعالج أي خلل قبل أن يصبح عصيا على العلاج.

اكاديمي في جامعة السلطان قابوس