أ.د. حسني نصر
يستحق العام الفائت (2015) أن نطلق عليه عام "الحزن" العربي الكبير، وأن نكسر وراءه- كما يقول المصريون- "قلة"، حتى لا يعود مرة أخرى. بالمنطق هو لن يعود وأصبح كل ما حدث فيه في ذمة التاريخ، ولكن تبعات ما وقع فيه من أحداث قد تستمر لسنوات أخرى، خاصة وان بعضها ما زال حاضرا وبقوة، مثل الحرب العالمية التي تشارك فيها عشرات الدول والجيوش والتنظيمات في سوريا، والحرب العربية- العربية في اليمن التي تخطت حاجز الشهور العشرة، بالإضافة إلى الانخفاض المتتالي في سعر البترول ثروة العرب الرئيسية ومورد رزقهم الأساسي.
قد لا يتغير شيء في العام الجديد (2016) خاصة على صعيد الكوارث والأزمات والإحباطات والقلاقل والحروب العربية، ومع ذلك يحق لنا ونحن نستقبله أن نطمع في أن يكون عام سلام على العالم كله بصفة عامة، والعرب بصفة خاصة، بعد أن ذاقوا في العام المنصرم في أكثر من قطر عربي مرارات القتل والقصف الجوي الأعمى، والتصفية الجسدية، وقطع الأعناق، والاعتقال، والتعذيب، والتهجير، ليس فقط على أيدي الأعداء، ولكن أيضا على أيدي عرب أخرين من نفس الوطن أو من الأشقاء والجيران. كان 2015 عام عربي دام بامتياز، لذلك نتمنى وندعو الله ألا يتكرر.
بدأ بحرب لم تنته في اليمن بين الحوثيين الذين سيطروا على القصر الرئاسي في الأسبوع الأخير من يناير وبين حكومة الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي،الذي سرعان ما انضم إلى جانبه تحالف عسكري عشري عربي بقيادة السعودية، في عملية لم تنته أيضا سميت عاصفة الحزم، رغم مرور أكثر من عشرة أشهر على إطلاقها. ويبدو أن هذه العملية ليس لها من اسمها نصيب كبير، لأن استمرارها حتى الآن يؤكد أنها لم تكن عاصفة، على أساس أن العواصف سرعان ما تنتهي خلال أيام أو حتى أسابيع، كما أنها لم تحزم شيئا بالنظر إلى استمرار القصف الجوي من جانب طائرات التحالف واستمرار السيطرة على الأرض من جانب الحوثيين.في عام الأحزان سالت دماء اليمنيين وما زالت، وسالت دماء السوريين وزاد تدفقها بعد أن تكالبت على الأجواء السورية طائرات روسيا والولايات المتحدة ودول أوربية عديدة تقصف بوحشية المدن والبلدات في حرب عبثية لا تطال تنظيم داعش ولا يدفع ثمنها سوى المدنيين العزل والأطفال والنساء. وكانت أزمة اللاجئين ومعاناتهم الإنسانية على حدود أوروبا وفي البحار،إحدى العلامات السوداء التي لن يغفرها الله ولا التاريخ للعرب في العام الفائت.
دعونا نسترجع ونحن نستقبل العام الجديد ما كنا عليه قبل عشرة أوعشرين أوثلاثين عاما، لكي نحدد ما إذا كان الماضي العربي أفضل ام الحاضر. في هذا العام الجديد ونتيجة لما حدث في العام الماضي تسيطر الأحداث العربية السيئة على الأخبار في العالم، ولا يكاد يمر يوم عربي واحد دون مأساة إنسانية هنا أو هناك. ندخل العام الجديد ولدينا على الأقل ثلاثة حروب يمكن وصفها بالأهلية مشتعلة في اليمن، وسوريا،وأجزاء من العراق، وحروب أخريربما أقل حدة في ليبيا والصومال. وبالتالي فقد كنا أفضل قليلا في العام 2006 رغم أنه شهد الغزو الإسرائيلي للبنان،وحربا طاحنة مع حزب الله استمرت 34 يوما، وخلفت الاف الضحايا. وفي العراق كانت هناك مقاومة وطنية للاحتلال الأمريكي، صاحبتها تفجيرات طائفية متبادلة، ومع هذا لم تكن لدينا في هذا العام حروبا عربية أهلية. وكنا أفضل أيضا قبل عشرين عاما، ففي العام 1996 كان الأعداء من الخارج فقط، خاصة إسرائيل التي اغتالت في مطلع ذلك العام القائد الحمساوي يحي عياش وهو ما ردت عليه حماس بتفجيرين انتحاريين خلفا نحو 32 قتيلا إسرائيليا. وفي نفس العام ارتكبت إسرائيل جريمة مذبحة قانا التي قصفت فيها مجمعاللأمم المتحدة في قانا وقتلت مائة لبناني. كما شهد نفس العام اعتداءات أمريكية جديدة على العراق فيما عرف باسم "عملية عاصفة الصحراء"، وذلك ردا على قيام الجيش العراقي باستراداد مدينة أربيل. وكما نلاحظ فقد كانت المآسي العربية في ذلك العام من إسرائيلوأمريكا ولم تكن هناك شعوب عربية تتقاتل سواء في داخل دولها أو مع شعوب عربية أخري.
منذ ثلاثين عاما، أي في العام 1986 كانت أوضاعنا العربية أفضل كثيرا خاصة على صعيد السلم الشعبي الأهلي داخل الدول العربية. في هذا العام كانت الحرب العراقية الإيرانية التي اندلعت في العام 1980 مستمرة وسط دعم من غالبية الدول العربية للعراق. وتعرضت ليبيا لضربة أمريكية جوية مركزة في الخامس من أبريل طالت قواعد عسكرية في طرابلس وبنغازي، ونجح الرئيس الراحل معمر القذافي في الهرب قبل لحظات قليله من قصف مقر إقامته في باب العزيزية بطرابلس، بفضل اتصال هاتفي من رئيس وزراء إيطاليا في ذلك الوقت بتينو كراكزى. وتفجرت في هذا العام فضيحة إيران- الكونترا التي كشفتها مجلة الشراع اللبنانية، وتتمثل في قيام الحكومة الامريكية ببيع أسلحة سرا إلى إيران من أجل الإفراج عن سبعة أمريكيين كانت تحتجزهم جماعة لبنانية موالية لإيران. وبعدها كشف المدعي العام الأمريكي أن أرباح صفقات السلاح مع إيران كانت تذهب بشكل غير شرعي لدعم متمردي الكونترا المناهضين للحكم الشيوعي في نيكاراجوا. وعلى صعيد الأحداث الداخلية، لم يشهد هذا العام سوى اضطرابات أمنية محدودة في مصر نتيجة تمرد جنود الأمن المركزي احتجاجا على تردي أوضاعهم.
هكذا كانت أعوامنا الماضية أفضل، واقل دموية خاصة على صعيد الاحتراب الأهلي والسلم الاجتماعي الذي يفتك حاليا بعدد من الدول العربية ويهدد بتفجر الأوضاع في دول أخرى تقف على حافة هذا الاحتراب. فهل يعيدنا العام الجديد إلى بعض ما كنا عليه في الماضي، ام أنه سيكون امتدادا لعام الأحزان العربية؟ الله أعلم.