القُوَّةُ النَّاعِمَة

مقالات رأي و تحليلات السبت ٢٤/سبتمبر/٢٠١٦ ٢٢:٤٣ م
القُوَّةُ النَّاعِمَة

زاهي وهبي

غالباً ما نقرأ في "جنريك" أو "تتر" النهاية لكثير من الأفلام السينمائية العربية غير التجارية وذات المنحى الثقافي أن مؤسسةً دوليةً ما ساهمت في إنتاجها، كذلك الحال في كُتيبات مسرحياتٍ جادة أو في منشورات تشرح تفاصيل نشاط ثقافي هنا أو هناك. إذ تعمد مؤسسات غربية كثيرة ترفع اليافطة الثقافية إلى دعم أعمال ثقافية عربية عبر المساهمة في تمويلها وإنتاجها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وما لا تتولاه مؤسسات الخارج تتكفل به المراكز الثقافية المُلحَقة بالسفارات الأجنبية في بلادنا العربية.
لعل السؤال الفوري الذي يتبادر إلى الذهن هو ما سرّ هذا الحرص الأجنبي على الإنتاج الثقافي العربي؟ سؤال تتبعه أسئلة لا تقلُّ عنه أهمية مثل هل حقاً أن ما يشغل بال تلك المؤسسات والمراكز هو ضعف النشاط المسرحي في بلادنا؟ أو تعثر الحركة السينمائية في هذا البلد العربي أو ذاك؟ ولماذا تبادر السفارات الأجنبية إلى دعم ما ينبغي لحكوماتنا ووزاراتنا أن ترعاه وتدعمه وتموله من ألِفه حتى يائه؟
لو دققنا جيداً في طبيعة الأعمال الإبداعية التي ترعاها وتمولها المؤسسات الأجنبية لفهمنا بعضاً من الدوافع الكامنة وراء ذاك الدعم الذي لا ينطلق أبداً من هاجس الحرص على مجتمعاتنا والرغبة في تطويرها، ذلك أنه لا يترك للمبدع العربي الذي يموله حرية العمل بل يضع شروطاً تحت مُسمَّى مواصفات، ويفرض بطريقة ذكية جداً وناعمة توجهات هذا الفيلم أو تلك المسرحية أو حتى بعض الأعمال الأدبية التي يكتبها مؤلفوها تحت هاجس ترجمتها إلى اللغات الأخرى غير العربية أو شهوة نيل الجوائز العالمية مهما كان الثمن حتى لو كان الإقرار بشرعية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين(!).
ثمة صورة نمطية عن الإنسان العربي ساهم "الغرب السياسي/الثقافي" في ترسيخها وتعميمها، وإذا كانت هوليوود قد تولت تقديم العربي في أفلامها الشعبوية على هيئة ماجنٍ لا تحركه سوى غرائزه أو إرهابيٍّ لا همَّ له غير قتل الأبرياء، فإن المؤسسات التي تدَّعي التصدي لعناوين وأعباء ثقافية لا تستطيع المجاهرة بتلك الصورة مثل كما تجاهر هوليود، بل تعمد إلى طرق وأساليب ملتوية تحت ستار تشجيع الإنتاج الثقافي. ففي معظم الأعمال الممولة من جهات غربية نلاحظ تركيزاً على قضايا معينة وإهمال قضايا أخرى والتعتيم عليها كلياً، يحضر مثلاً مجتمع "الحريم" وتعدد الزوجات وعلاقة العربي الملتبسة بالجسد، و"التعايش" بين الضحية الفلسطينية وجلادها الإسرائيلي وسواها من عناوين تُمَرَّر عبرها رسائل معينة يجري غرسها في ذهن المتلقي العربي بحيث لا يعود التطبيع مع المحتل مُستنكَراً ولا مرفوضاً، وتترسخ صورة العربي أمام نفسه وفي مرآة فكره كمتخلف لا همَّ له سوى غرائزه وعصبياته المنفلِتة من كل عقال، فيما يحضر الغربي، الأميركي خصوصاً، كمنقذ من الإرهاب والتطرف وكأنه مسيحَ سلامٍ لا همَّ له سوى خلاص العالم.
تغيب كلياً عن تلك الأعمال الممولة أجنبياً القضايا الجوهرية والملحَّة التي ساهمت بتخلف المجتمعات العربية ونكوصها إلى الوراء، لا يشغل بال مموِّلي السينما والمسرح وسواهما سؤال فشل الدولة الوطنية في العالم العربي، ومسؤولية الإستعمار الغربي عن تقسيم بلادنا وتجزئتها وتفتيتها المتواصل حتى الآن، ولا الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين وقيام دولة الكيان الغاصب في قلب العربي والنتائج الكارثية المترتبة عليه. حتى موضوع الإرهاب الذي يُلصق حصراً بالعرب والمسلمين لا يتم تناوله إلا من زوايا محددة تغفل دور الغرب نفسه في استيلاد معظم الحركات الدينية المتشددة ورعايته لها وتربيتها كالوحش الكاسر في سبيل مقارعة التيارات التقدمية واليسارية والإتحاد السوفياتي ذات حرب باردة، مثلما تغفل عن استقبال العواصم الكبرى لغلاة الدعاة المحرضين على الفتن وتأسيسهم مراكز ومنابر في قلب واشنطن ونيويورك ولندن وباريس وسواها من مدن فرَّخت لنا عشرات "الأنبياء الكذَبة"، مثلما يتم تغييب قضايا القمع السياسي والفكري والفقر والبطالة والفساد والأمية لِيحضر عِوَضاً منها الجلد والرجم وقطع الأيدي.
لا نقول أبداً بأن قضايا مثل الجلد والرجم وقطع الأيدي وتعدد الزوجات وحرية المرأة لا ينبغي أن تُطرَح أو تُناقش، على العكس تماماً، ندعو إلى طرحها على بساط البحث بكل جدية وعمق، بل نذهب أبعد من ذلك إلى الدعوة لِتجديد الفقه والفكر الإسلاميين بجميع مدارسهما وتياراتهما، لكن ليس انطلاقاً من تلك النظرة "الإستشراقية" التي لا تريد أن ترى مجتمعاتنا وقضايانا إلا على هواها وكما يحلو لها ويخدم مصالحها. لا نريد أن يتم حصر مشاكلنا بقضايا معينة وتغييب قضايا قد تكون أكثر أهمية وإلحاحاً في مقدمتها مسؤولية الغرب نفسه عن كثير مما حلَّ ويحلُّ بنا من دون إعفاء أنفسنا من المسؤولية. أليس مُلفتاً مثلاً غياب أي مفكر متنور أو رجل دين تقدّمي عن منابر الغرب الممتلئة بأخبار التكفيريين والغلاة؟ ألم يأتِنا معظم القتلة والذبِّيحة من مدن الغرب الذي حوَّل اللاجئين إليه سجناء في غيتوات يعيش أهلها على هامش الحياة؟ لِمَ لا يتم طرح مثل هذه القضايا في وسائل إعلام الغرب أو في الأفلام والمسرحيات والكتب المموَّلة من قِبَله؟
الحال البائسة في الإنتاج الإبداعي العربي المموَّل من مؤسسات غربية تتلاقى مع الفيتو الذي تضعه معظم (نقول معظم كي لا نظلم بعض المؤسسات والجهات النزيهة في منطلقاتها وأهدافها) المؤسسات والمراكز الغربية على أي عمل ملتزم حقاً بالقضايا العربية الملحَّة، فلا تتم ترجمة أي عمل أدبي إذا كان يتضمن دعوة أو تبشيراً بضرورة مقاومة الهيمنة والتسلط والطغيان الإستعماري القديم/الجديد، أو ينتصر لحق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، أو يناهِض القمع والاستبداد من موقع تنويري تقدُّمي لا من موقع تكفيري متطرف متخلف، ولا تمنح الجوائز الأدبية والفنية الكبرى إلا بناءً على خلفيات سياسية (على سبيل المثال لم يُمنح كاتب كبير بوزن نجيب محفوظ جائزة نوبل إلا حين وقَّعت مصر إتفاقية كمب ديفيد)، أو لِمَن يقدِّم فروض الطاعة والولاء للوبي الصهيوني المتحكِّم بمفاصل الدعاية والتسويق والإعلام في معظم أنحاء العالم، هكذا رأينا روائياً فرنكوفونياً/جزائرياً معروفاً وحائزاً جوائزَ مهمة هو بوعلام صنصال يتجرأ على زيارة دولة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ويبرر بصفاقة إحتلالها وعدوانها من خلال مشاركته في القدس المحتلة بإحتفال بذكرى قيام إسرائيل، مثلما تابعنا روائياً فرنكوفونياً/لبنانياً عضواً في الأكاديمية الفرنسية هو أمين معلوف يجري حواراً مع قناة تلفزيونية إسرائيلية لأنه يعرف أن الطريق إلى نوبل تمرُّ من هناك، ويحذو حذوهما العديد من المثقفين العرب الذين بات رضا إسرائيل قبلتهم الجديدة(!)
كل ما تقدَّم كنّا في غنى عنه لو كانت الحكومات العربية والوزارات المعنية والمؤسسات المختصة تقوم بواجبها وبما هو مطلوب، أي بدعم الإنتاج الإبداعي العربي ورعايته وعدم وضع العصي في دواليبه وتركه حراً بلا قيود وخطوط حمراء. لا يظنَّن أحد أن المسرح والسينما الجادين ودور الأوبرا والأوركسترا في الغرب تسير من تلقاء نفسها. كل الفنون الجادة غير التجارية تتلقى دعماً من الدولة، لذا من واجب الحكومات العربية، إذا كانت حقاً معنية بأحوال البلاد والعباد، أن تفهم أولاً أن الإبداع الأدبي والفني ليس ترفاً ولا من باب الكماليات، بل يقع في صلب عملية التنمية والنهوض، ولن تنهض أمة إقرأ ما لم تقرأ جيداً أهمية المعرفة والثقافة. صحيح أننا نشهد اليوم ولادة إنسان معولم ذي ثقافة كونية، لكن هذه العولمة غير المسبوقة بالذات تدعونا إلى الحرص أكثر على ما يميزنا ويعطينا خصوصيتنا، وهذا ما تفعله كل شعوب الأرض. إذا أردتَ الجلوس إلى مائدة الأمم عليك أن تُقدِّم طبقك الخاص، وما مِن أمَّة في عالم اليوم إلا وتحرص على نتاجها الإبداعي وتفاخر به وتباهي الآخرين. بريطانيا العظمى تُوْصَف بأنها بلد شكسبير، وروسيا لا تنسى لحظة أنها وطن تولستوي وشولوخوف، أما ألمانيا فَتُطلِق اسم فيلسوفها غوتة على مراكزها الثقافية في كل أنحاء العالم. فلماذا نرضى نحن أن تُطمَس ثقافتنا ويُنسَى رموزنا المبدعون، ولا يبقى منّا في أذهان الآخرين سوى "الحرملك" وهو أصلاً ليس صناعة عربية بل يمكن اعتباره "عملاً مُدبلَجاً" إلى العربية(!)
المؤسسات الثقافية الغربية الناشطة في بلادنا، والتمويل الأجنبي الذي يُمنح بسخاء لبعض المبدعين العرب، والجوائز المشروطة بتقديم شهادة حُسْن سلوك أدبي وثقافي، ما هي سوى قوة ناعمة تُضاف إلى أدوات القوة الأخرى التي تستخدمها الدول الكبرى والقوى العظمى المهيمنة والمتوحشة لاستمرار تسلطها على الشعوب المغلوبة، ولولا عجز الحكومات العربية وتلكؤها عن القيام بواجباتها تجاه المبدعين وعدم رعايتها للإنتاج المعرفي لما تسللت تلك المؤسسات المانحة تحت جنح العجز والتقصير لتوجه بوصلتنا الإبداعية نحو ما تريده هي لا نحو ما يجب أن يكون.
الجيوش تستعمر الأرض، الفكر يستعمر العقل، فهل مَن يتفكَّر في ما نحن فيه؟