العدالة بين اردوغان والمعارضه

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٠/سبتمبر/٢٠١٦ ٢٣:٥٦ م
العدالة بين اردوغان والمعارضه

تيمور كوران

ـ تسلم حزب العدالة والتنمية في تركيا إلى سُدة السُلطة في عام 2002 على وعد بإعطاء المسلمين المتدينين حريتهم الدينية. ولكن يظل وعد "الحرية"، بعد مرور أربعة عشر عاما، آخر ما قد يفي به حزب العدالة والتنمية.
فاليوم، يتعين حتى على أنصار حزب العدالة والتنمية أن يَزِنوا كلماتهم بعناية، خشية أن يُظَن أنهم ينتقدون الحكومة أو ينحازون إلى أعدائها. وقد اشتدت هذه الحتمية منذ الانقلاب الفاشل ضد حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان في الخامس عشر من يوليو. والآن، بات تدمير أي دليل على الارتباط بخصوم حزب العدالة والتنمية ــ وخاصة فتح الله غولن، رجل الدين الذي يعيش في عزلة في بنسلفانيا والذي تتهمه الحكومة بتدبير الانقلاب ــ ضرورة للحفاظ على الذات.
الواقع أن حكومة أردوغان ليست بأي حال من الأحوال أول حكومة تركية ترغم المواطنين الأتراك على إخفاء تفضيلاتهم ومعتقداتهم. ففي ظل الحكومات العلمانية التي حكمت تركيا منذ عشرينيات القرن العشرين إلى عام 1950، وإلى حد ما حتى عام 2002، كان لزاما على الأتراك المتدينين الراغبين في بلوغ مراتب متقدمة في الحكومة، أو المؤسسة العسكرية، أو حتى التجارة، أن يخففوا من مظاهر التدين وأن يتجنبوا الإشارة إلى موافقتهم على الإسلام السياسي.
كان قادة الأحزاب الإسلامية الثلاثة التي سبقت حزب العدالة والتنمية يعربون عن استيائهم من الحواجز التي تحول دون التعبير الديني. وكانوا يرون أن العلمانية على الطريقة الفرنسية كانت سببا في انحراف الثقافة التركية. ورغم حِرص هذه الأحزاب على عدم الطعن في الدستور صراحة، فإنها حُظِرَت على التوالي في الفترة من 1971 إلى 2001 باعتبارها تهديدا للعلمانية. وفي عام 1999، سُجِن أردوغان ذاته عندما ألقى قصيدة اعتُبِرَت تحريضا على العنف الطائفي. وفي نفس العام، انتقل غولن، الذي كان قيد التحقيق بتهمة الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية، إلى الولايات المتحدة.
وبحكم الزمالة في معارضة الحكم العلماني، كانت حركة غولن تحت مسمى (خدمة) وحزب العدالة والتنمية حليفين طبيعيين. والواقع أنهما عملا معا على مدار عشر سنوات على تقويض المؤسسات العلمانية في تركيا. وبعد الاستفتاء على الدستور في عام 2010، والذي أنهى وصاية المؤسسة العسكرية العلمانية الثابتة على الجمهورية، رأى قادتهما فرصة تاريخية لإصلاح المؤسسات التركية، ولو إن الأمر لم يخل من بعض الخلاف ــ والتوتر في واقع الأمر ــ حول الكيفية التي ينبغي أن يتم بها هذا.
بدأ أردوغان، الذي كان آنذاك رئيسا للوزراء، تحويل المجتمع التركي وفقا لتفسيره المحافظ للإسلام. وانتشر التعليم الإسلامي. واشتدت القيود المفروضة على المشروبات الكحولية. وصدرت التعليمات للنساء بإنجاب ثلاثة أطفال على الأقل، ثم في وقت لاحق بعدم الضحك بصوت عال في الأماكن العامة. وأُخضِعَت وسائل الإعلام التي لم يتمكن حزب العدالة والتنمية من شرائها من خلال التهديدات بفرض الضرائب عليها كعقاب والسجن للصحافيين غير المتعاونين. أما الأتراك العلمانيون، الذين كانوا ذات يوم يشكلون الطليعة الحداثية المهيمنة سياسيا، فقد وصِموا بالافتقار إلى الأخلاق وعدم احترام الأصول، بل وحتى الآداب التركية.
ولكن المسلمين المتدينين لم يسلموا من الخوف أيضا، وخاصة بسبب الصراع على السلطة بين معسكري أردوغان وغولن في وقت لاحق. ورغم أن أنصار جولن كانوا في البداية يتقاسمون امتيازات السلطة في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، بما في ذلك المعاملة التفضيلية في التوظيف الحكومي والعقود الحكومية، بلغت التوترات ذروتها في عام 2013، عندما حاول أتباع غولن توريط أردوغان في قضية فساد. وجاء رد أردوغان بإطلاق حملة تطهير للمشتبه في انتمائهم إلى حركة غولن من مؤسسات الدولة.
وبعد أن كشف اثنان من الأكاديميين بالفعل أن العديد من الدعاوى القضائية المثيرة التي أقيمت ضد المؤسسة العلمانية القديمة كانت قائمة على أدلة ملفقة، بدأ المسؤولون في حزب العدالة والتنمية إلقاء اللوم على جولن عن جميع المخالفات القضائية. ورغم عدم وجود أي شك في أن حزب العدالة والتنمية كان على عِلم بأن ضحايا الدعاوى القضائية، بما في ذلك المئات من الجنرالات، أدينوا زورا، فلم ينبس ببنت شفة سوى قِلة من الأتراك، خشية اتهامهم بكونهم جزءا من "دولة غولن الموازية".
وبعد مرور شهرين منذ محاولة الانقلاب الأكثر دموية في تاريخ تركيا، لا يزال الأتراك يتحدثون دون توقف عن عمليات القصف السيريالية، وصور الدبابات في الشوارع على شاشات التلفاز، والاستجابة الشرسة من قِبَل الحكومة، والتي شملت اعتقال عشرات الآلاف من الأتراك. ويتساءل البعض ما إذا كان أردوغان دبر الانقلاب بنفسه لتبرير عملية التطهير الهائلة. بطبيعة الحال، لا تُثار مثل هذه التساؤلات إلا في الجلسات الخاصة، وسط التأكيد على كراهية منظمة فتح الله الإرهابية"، وهي التسمية الرسمية الجديدة للحركة. ويعلم الأتراك أن الحكومة قد تساوي بين أدنى ارتباط بغولن، مهما كان قديما أو عابرا، بالخيانة.
والآن، يُفصَل المتعاطفون المزعومون تعسفيا من وظائفهم، هذا إن لم يسجنوا أيضا. ويُعَد الأشخاص الذين تعلموا على منح غولن الدراسية من المشتبه بهم الرئيسيين، كما هي حال الملايين الذين أداروا تعاملات مع شركات مملوكة لأتباع حركة غولن. كما تُصادَر أصول أتباع حركة غولن، في أضخم عملية مصادرة للثروات منذ أربعينيات القرن العشرين. وفي ظل هذه الظروف، فإن تمجيد مزايا المؤسسات الخيرية الجولينية التي يجري تدميرها الآن يرقى إلى مرتبة الانتحار المهني.
لا يخلو كل هذا من الإفراط الشديد، خاصة وأنه أيا كانت طبيعة مشاركة غولن ذاته، فإن الانقلاب لم يكن من عمل أتباع غولن وحدهم. فقد شارك فيه العديد من الضباط الساخطين من مختلف الطوائف، كما فعل الانتهازيون الساعون إلى الترقية. وربما كان إخفاق الانقلاب راجعا إلى حقيقة مفادها أن المعلومات حوله سُرِّبَت مقدما، بما في ذلك انسحاب العديد من المتآمرين ووحدات عسكرية رئيسية من المؤامرة.
الواقع أن العديد من الجنرالات، وضباط الاستخبارات، وغيرهم من المسؤولين، ترددوا عندما بات من المعلوم أن الانقلاب جار. فقد أخفى كبار الجنرالات ورئيس الاستخبارات المعلومات عن أردوغان لساعات، حتى في حين كانت فرقة اغتيال في طريقها إلى مقر عطلته. وقد انتهى نهج الانتظار والترقب من قِبَل العديد من مسؤولي الأمن التركي إلى إرسال بعضهم إلى السجن. وبين أتراك آخرين أيضا، هناك عدد لا شك في ضخامته من أولئك الذين قرروا الانتظار إلى أن يروا إلى أي حال قد ينتهي الانقلاب، قبل أن يتحولوا ضد غولن.
يتفق حزب العدالة والتنمية والعديد من معارضيه على أمر واحد: وهو أن نجاح الانقلاب كان ليؤدي إلى عمليات قَمعية أسوأ كثيرا وأشد شراسة. والواقع أن أنصار حزب العدالة والتنمية يفوقون أتباع غولن عددا بشكل واضح. ولكن حزب العدالة والتنمية اكتسب وفرة من العداوات المريرة على مدار السنوات الأربع عشرة الفائتة ، وكان الملايين من الأتراك ليبتهجون لسجن قادته، حتى برغم الادعاءات الوجيهة من قِبَل العديد منهم بأن دعمهم لأردوغان كان مختلقا.
اليوم أصبحت تركيا أبعد من أي وقت مضى عن خلق مجتمع لا يتردد أعضاؤه في التحدث بصراحة وصِدق. ومن المؤكد أن الملاحقات الجارية الآن تجعل المواطنين من الطوائف والاتجاهات كافة يخشون على وظائفهم وحياتهم. وهم يطلبون الملاذ في التقية ــ اجتماعيا، وسياسيا، وفكريا، ودينيا. وانتشار عدم المصداقية على هذا النحو يعزز أسس الأزمات السياسية المتكررة في تركيا.

أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة ديوك، ومؤلف كتاب "التباعد الطويل: كيف قيدت الشريعة الإسلامية الشرق الأوسط".