استكشاف مفارقة الإنتاجية

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١٩/سبتمبر/٢٠١٦ ٢٣:١٣ م
استكشاف مفارقة الإنتاجية

كمال درويش

على مدار العقد الماضي أو نحو ذلك، تباطأ نمو الإنتاجية بشكل كبير في أغلب الاقتصادات المتقدمة الكبرى، حتى برغم التقدم المبهر الذي تحقق في مجالات مثل الحوسبة، والهاتف المحمول، والروبوتات. من الواضح أن كل هذا التقدم كان من المفترض أن يعزز الإنتاجية؛ ومع هذا كان متوسط نمو إنتاجية العمل في قطاع الأعمال في الولايات المتحدة في الفترة 2004-2014 أقل من نصف المعدل في العقد السابق. تُرى ما السبب وراء هذا؟
تتلخص إحدى النظريات التي اكتسبت قدرا كبيرا من الثِقَل مؤخرا في أن ما يسمى مفارقة الإنتاجية لا وجود له في واقع الأمر. ويبدو أن نمو الإنتاجية يتجه نحو الانخفاض فقط، وفقا لهذا المنطق، لأن الإحصاءات التي نستخدمها لقياسه تفشل في التعبير بشكل كامل عن المكاسب الأخيرة، وخاصة تلك المصاحبة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة والأعلى جودة. يشير إلى أن المعايير القياسية للإنتاجية تعتمد على الناتج المحلي الإجمالي، والذي لا يضم بحكم التعريف سوى الناتج المنتَج. ويصبح الفائض الاستهلاكي ــ الذي ينمو بسرعة مع توليد الخدمات القائمة على الإنترنت، مثل محرك بحث جوجل وفيسبوك، لمنافع كبيرة تعود على المستهلكين بسعر السوق الذي يقرب من الصِفر ــ موضع تجاهل.
لا تخلو هذه الحجة من بعض المنطق. فقد أكدت مراجعة حديثة للبحوث التي تتناول الإنتاجية والتي أجرتها مؤسسة بروكنجز ومؤسسة شومير أن المكاسب المترتبة على التكنولوجيات الجديدة لا تُقَدَّر حق قدرها، وذلك نظرا للقضايا الخاصة بالقياس والمتعلقة بكل من جودة المنتَج والفائض الاستهلاكي.
ولكن هذين النوعين من القياس الخاطئ لا يفسران إلا حصة صغيرة نسبيا من التباطؤ في المكاسب الاقتصادية. وعلاوة على ذلك، كانت هذه الهفوات موجودة لفترة طويلة، ولا يبدو أنها تزايدت بشكل كبير في السنوات الأخيرة. والاستنتاج الواضح هو أن تباطؤ نمو الإنتاجية حقيقي.
وزعم كثيرون أن القضية الحقيقية هي أن الإبداعات التكنولوجية الأخيرة كانت أقل تأثيرا وأهمية من سابقاتها. فتكنولوجيات المعلومات والاتصالات، كما يزعم "المتشائمون من التكنولوجيا"، لا تجلب ببساطة ذلك النوع من الفوائد التي تعود على الاقتصاد بالكامل والتي جلبها على سبيل المثال محرك الاحتراق الداخلي والكهرباء. ومن جانبهم يعتقد "المتفائلون بالتكنولوجيا" أن التقدم في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كفيل بدفع عجلة النمو السريع في الإنتاجية؛ وأن فوائد هذه التكنولوجيا تخضع لفترات تباطؤ وتأتي في موجات.
هناك أيضا عنصر الاقتصاد الكلي في انحدار نمو الإنتاجية، والذي تمتد جذوره إلى نقص الطلب الكلي. فكما يرى وزير الخزانة الأميركي السابق لاري سامرز، عندما يكون المستوى المرغوب من الاستثمار أقل من المستوى المرغوب من المدخرات برغم انخفاض أسعار الفائدة الوطنية إلى الصِفر، يعمل نقص الطلب المزمن على تقييد نمو الناتج المحلي الإجمالي والإنتاجية، ويُفضي هذا إلى ما يسمى "الركود المزمن".
و ترتبط حجج جانبي الطلب والعرض ارتباطا وثيقا. بل إن توقعات المتشائمين تكنولوجيا، والتي من الممكن أن تؤدي إلى خفض الأرباح المتوقعة، ربما تثبط الاستثمار. ومن ناحية أخرى، يساهم تركز الدخل الزائد عند القمة ــ وهو الوضع الذي ربما يتفاقم بفعل عدم انتشار التكنولوجيا بالقدر الكافي ــ في زيادة معدلات الادخار.
إن أي استراتيجية لمعالجة المشاكل التي تؤسس لانخفاض نمو الإنتاجية ــ من عدم انتشار التكنولوجيا بالقدر الكافي إلى التفاوت في الدخل ــ لابد أن تعالج تقييد المهارات وعدم التوافق الذي يؤثر على قدرة سوق العمل على التكيف. وفي ظل الظروف الحالية، يتسم العمال وخاصة من الفئات ذات الدخل الأدنى، ببطء الاستجابة للطلب على المهارات الجديدة ذات المستوى الأعلى، وذلك نظرا للتخلف في التعليم والتدريب، وجمود سوق العمل، وربما أيضا بعض العوامل الجغرافية. ومن الممكن أن تتسبب هذه العوامل، جنبا إلى جنب مع الأسواق التي تميل إلى تحصيل الريع واستئثار الفائز بكل شيء، في ترسيخ التفاوت وتثبيط قدرة الأسواق على المنافسة.
من حسن الحظ، يبدو أن قادة العالم يدركون بعض الضرورات والحتميات التي يواجهونها. ففي قمة مجموعة العشرين الأخيرة التي استضافتها مدينة هانجتشو في الصين، أكَّد قادة العالم على الحاجة إلى تعزيز الاستثمار والتعجيل بالإصلاحات البنيوية اللازمة لتعزيز الإنتاجية ورفع مستوى النمو المحتمل .
لن يتسنى لنا أن نعرف كيف قد تؤثر التكنولوجيات الجديدة على اقتصاد العالم في الأمد البعيد. ولكن الأمر الوحيد الذي نعلمه عن يقين هو أن مفارقة الإنتاجية حقيقية، وأنها تساهم في اتساع فجوة التفاوت في العديد من المجتمعات. والآن حان الوقت للتصدي لها.

كمال درويش وزير الشؤون الاقتصادية في تركيا سابقا