محمد بن محفوظ العارضي
لقد دخل الاقتصاد العالمي مرحلة جديدة تختلف في جوهرها وتحدياتها عن كافة المراحل السابقة التي شهدتها أسواق العالم على امتداد تاريخ العمل الاقتصادي، السبب في ذلك ليس تراجع أسعار النفط كما يُجمع بعض الخبراء والمحللين الاقتصاديين، بل في الخلل البنيوي للاقتصاد العالمي والذي تكشّف بشكل كبير خلال أزمة 2008،حيث جاء هبوط أسعار النفط نتيجة طبيعية متوقعة لتداعياتها على الاقتصادات المنتجة والمستهلكة على حد سواء.
لذا فإن المدخل الحقيقي لمغادرة هذه المرحلة لن يكون من خلال الاستمرار في مناقشة سبل رفع سعر النفط، بل في تناول الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة المحتمة، وفي معالجة التحديات التي كشفها تراجع أسعار النفط عالمياً وفي مقدمتها ضرورة التنويع الاقتصادي والتركيز على القطاعات التي تتميز بها كل دولة، وابتكار آلية جديدة لتمويل المشاريع السيادية من خلال الاعتماد على التمويل الوطني بشكل أساسي.
لقد استبقت السلطنة هذه الأحداث بعدة إجراءات، كان أولها الإبقاء على سقف منخفض للدين العام والذي لم يتجاوز حاجز الـ 10% من الناتج الإجمالي المحلي، مما يتيح لسلطنة فرصة الاقتراض من الأسواق المالية العالمية لتمويل العجز المالي إذا اقتضت الضرورة، بدون أن تتجاوز السقف المعقول للدين العام. يضاف إلى هذه الميزة التصنيف العالي للمستوى الائتماني لسندات الحكومة عند مستوىA1 حسب بيانات مؤسسة موديز.
علينا الإشارة هنا إلى أن وجود دولة بديون عامة منخفضة في زمن باتت فيه الديون إحدى المعضلات التي تثقل كاهل اقتصادات عالمية كبيرة هو إنجاز هام ومؤشر إيجابي يجب الحفاظ عليه.
في المقابل تحتاج الدولة للاستمرار في الإنفاق الحكومي على المشاريع السيادية والبنية التحتية للحفاظ على بيئة مالية داعمة ومحفزّة للاستثمار، خاصةً استكمال مشروع السكة الحديدية وخطوط النقل والمواصلات التي ستجعل من السلطنة مركزاً لوجستياً للتصدير وإعادة التصدير وستؤمن التواصل الداخلي بين مختلف المشاريع التنموية بواسطة هذه الخطوط. كما تحتاج إلى الاستمرار في الإنفاق على تطوير القطاعات غير النفطية لتحقيق رؤية 2020 بتخفيض نسبة مساهمة النفط في الناتج الإجمالي المحلي من 46% إلى 9%.
هذه المشاريع تحتاج إلى رأس مال ضخم، فما هي الخيارات المتوافرة لدى السلطنة لتمويلها بعد هذا التراجع غير المسبوق لأسعار النفط؟
إن الخيارات لتأمين مداخيل للمشاريع السيادية متعددة، وتشمل بيع أصول أجنبية، أو بيع بعض مكونات القطاع العام للشركات الخاصة، أو اللجوء للدين العام، أو استحداث نظم ضريبية جديدة. لكن جميع هذه الخيارات تستثني خياراً هاماً قد يشكل أحد أنماط التمويل المستقبلية على المدى البعيد خاصةً في ظل تعقيدات العولمة الاقتصادية وارتباط الدين بتبعات سياسية قد تمس سيادة الدولة واستقلالية قرارتها المصرية، وهو مساهمة الأفراد في تعزيز الناتج المحلي من خلال الادخار بأدوات مالية تمويلية مثل السندات العامة أو الصكوك.
لقد لجأت العديد من الدول خاصةً بعد الأزمة المالية العالمية إلى الاعتماد على مدخرات المواطنين والشركات الوطنية في تمويل مشاريعها السيادية وتنشيط حركة الاقتصاد الوطني. بعض الدول أصدرت ما يسمى بصكوك تنمية أو سندات تنمية وهي حصص مشاع متساوية في مشاريع قائمة يشتريها المواطنون فيساهمون بهذه الطريقة في التمويل لقاء عائدات على أموالهم بحسب حصصهم التي تحددها عدد الصكوك أو السندات التي في حوزتهم.
إن خياراً كهذا قد لا يكون كافياً لسد الهوة بين العجز المالي والحد الأدنى من الإنفاق الرأسمالي للدولة لكنه كافٍ لتقليص إمكانية اللجوء إلى خيارات قد تتسبب بخسارة عامة على المدى الطويل. لكن هذا الخيار لا يعني ألاّ تلجأ الدولة إلى رفع مستوى الضرائب وتوسيع مساحة الفئات المستهدفة مع مراعاة عدم المس بجاذبية البيئة الاستثمارية أو إثقال كاهل المواطنين.
إن ما يشجعنا على البحث عن صيغ تمويل وطنية هو ما تمتلكه السلطنة من فرص وآفاق لتطوير قطاعات غير نفطية، يمكن لها أن تساهم بشكل كبير بتقليص حجم الاعتماد على النفط. فالسلطنة تمتاز بقطاعها الزراعي الواعد والعريق في تجربته وتاريخيته، في محيط من الدول التي تستورد المنتجات الغذائية والزراعية من الخارج، وهذا ما يجعل السلطنة مرشحة لسد جزء كبير من احتياجات هذه الدول في المدى البعيد. فقد بلغت القيمة الإجمالية للإنتاج الزراعي والسمكي 525 مليون ريال عماني للعام 2014، محققة معدل نمـو 5.8% عن العام 2013، ويمكن باتباع وسائل الزراعة التقنية الحديثة وزيادة تنظيم هذا القطاع أن يتضاعف الإنتاج ليتجاوز حاجز المليار ريال عماني أي 2.59 مليار دولار أمريكي بغضون عشر سنوات فقط وهي المدة الكافية لتحديث القطاع بمجمله.
أما القطاع الآخر الذي يتوقع له أن يكون من القطاعات الريادية في المرحلة المقبلة نتيجة الأحداث الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة فهو قطاع السياحة. ومن المعروف أن أهمية قطاع السياحة تكمن في بعده وعمقه كأحد القطاعات الترويجية لكافة مكونات الدولة الثقافية والاقتصادية وأنماط الحياة والعمل. وتتفوق السلطنة عن غيرها من الدول الإقليمية بمناخها المتنوع وعراقة تراثها وتقاليدها التي تجعلها محط اهتمام السياح والبعثات الثقافية بمختلف وظائفها، كما تمتاز بتنوع أسواقها وأسعارها التنافسية. وتشير الدراسات إلى ارتفاع نسبة مساهمة قطاع السياحة بـ 6% من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بـ 2.5% العام 2012. ونظراً للخطة الخمسية التي تتبناها الحكومة، من المتوقع أن يتضاعف حجم هذا القطاع ليصل إلى 9.9% بحلول العام 2020.
لا يمكن الحديث عن هذه القطاعات بمعزل عن الحديث عن التحول نحو الإنتاج في سمة الاقتصاد الكلي، وبمعزل عن الحديث عن قطاع النقل والمواصلات الذي ذكرناه في مقدمة المقال أو حتى بمعزل عن الحديث عن موارد مالية وطنية يساهم فيها المواطن والمقيم في السلطنة بنسبة تقلّص من الاعتماد على المصادر الخارجية للدخل. إن هذه القراءة السريعة للقطاعات الواعدة ولإمكانيات تمويلها تجعلنا واثقين بأننا سندخل العام 2020 الذي حددته الرؤية العُمانية ونحن متفوقين على النتائج التي حددتها الرؤية العُمانية واستراتيجية عُمان الوطنية للتنمية الشاملة والمستدامة. المهم أن نستمر في ابتكار آليات تمويل جديدة لتعزيز اقتصادنا الوطني بموارد وطنية بالدرجة الأولى.