كريس باتن
تنتظر رئيسة وزراء بريطانيا الجديدة تيريزا ماي مهمة جسيمة: تلبية طلب الناخبين البريطانيين ــ أو بالأحرى طلب الناخبين في إنجلترا وويلز ــ بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وإدارة العواقب البعيدة المدى المترتبة على هذا الجهد. الواقع أن التحديات التي واجهت من سبقوها مؤخرا في المنصب تتضاءل مقارنة بالتحدي الذي يواجهها. لكنها ربما تكون على قدر هذا التحدي.
لا ينبغي لأحد أن يستهين بماي. فمثلها كمثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي أثبتت جَلَدها وقدرتها على الصمود في مواجهة أزمات متلاحقة، تملك ماي كل الأدوات التي تحتاج إليها لإنجاز الأمور. فهي بارعة، وصلبة العود، ولا تصبر على الهراء. كما تملك حسا قويا بطبيعة الخدمة العامة، فضلا عن مجموعة من القيم القوية بنفس القدر. وهي غير محملة بأثقال إيديولوجية، وبارعة في الإبقاء على الأمور تحت سيطرتها، وتعمل ضمن حدود فرضتها على نفسها وتبقيها على أرض مألوفة.
تفوز ماي بأغلب المعارك التي تخوضها، ولا تُبدي أي رحمة تُذكَر لهؤلاء الذين استخدموا تكتيكات خبيثة وماكرة ضدها. ومع هذا فإن أعداءها المعروفين داخل حزبها قليلون، وهي تتمتع بشعبية بين عامة أعضاء الحزب. إنها تركيبة قوية ــ وسوف تحتاج إلى استخدامها بالكامل في محاولاتها لقيادة بريطانيا إلى خارج الاتحاد الأوروبي.
لا مجال لأي فهم مغلوط هنا: فبريطانيا في طريقها للخروج. وقد صرحت ماي مرارا وتكرارا أن لا عودة إلى الوراء في ما يتصل بالتصويت على الرحيل، حتى برغم تصويت اسكتلندا وأيرلندا الشمالية على البقاء. "فالخروج البريطاني يعني الخروج البريطاني"، كما تُصِر، مع ترديد وزرائها لنفس عبارتها.
ولكن يظل لزاما على ماي أن تشرح لنا بوضوح تعريفها للخروج البريطاني على وجه التحديد. وهذا هو الجزء الصعب.
تخيل لو قال لك شخص ما إن "الإفطار يعني الإفطار"، ثم شرع في إعداد وجبتك. لن تكون لديك فكرة حول ما ستتناوله فعليا. فهل يكون إفطارا أيرلنديا شماليا كاملا ــ البيض ولحم الخنزير المقدد ونقانق الخنزير، والبودنج الأسود، والبطاطا، وخبز الصودا، وطماطم مقلية ــ مع كوب من الشاي؟ أو قهوة مع حلويات؟ بناء على ظروفك وتفضيلاتك، ربما يكون شعورك مختلفا للغاية إزاء الاحتمالات المتعددة.
ينطبق الشيء نفسه على الخروج البريطاني. فبعض الناس معنيون في المقام الأول بوقف دخول العمال من الاتحاد الأوروبي إلى المملكة المتحدة. ويركز آخرون على صيانة القدرة على الوصول إلى السوق الموحدة. ولكن على النقيض من وجبة الإفطار، لا تستطيع بريطانيا أن تطلب كل شيء على القائمة.
الحقيقة التي يتجاهلها أنصار الخروج غالبا هي أن الاتحاد الأوروبي لن يعرض شيئا في مقابل لا شيء. ليس هذا لأن قادته يريدون تسجيل نقاط لصالحهم، أو معاقبة المملكة المتحدة لرفض الاتحاد الأوروبي (أحيانا باستخدام خطاب تحريضي ملتهب، كما حدث عندما أشار وزير الخارجية البريطانية الجديد بوريس جونسون إلى "الإمبريالية الهتلرية" التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي). بدلا من ذلك، وكما نميل نحن البريطانيون إلى النسيان، فإن الجميع ــ بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وكل بلدانه الأعضاء ــ لديهم مصالح سياسية أو تجارية خاصة، وهم ملتزمون بحمايتها.
عندما نتحدث عن ماي فإن التحدي الرئيسي الذي تواجهه خلال الأشهر القليلة المقبلة سوف يتلخص في تحديد ما الذي ينبغي لبريطانيا أن تسعى إلى الحصول عليه واقعيا عندما تبدأ المفاوضات الشاقة على علاقتها مع أوروبا (وعلى جبهة التجارة مع العالم). ونظرا لحجم الأجندة (أستطيع أن أفكر في ما لا يقل عن ستة مواضيع رئيسية سوف تتطلب مفاوضات خاصة)، فقد تستغرق العملية سنوات عديدة. (ربما تبدأ حفيدتي التي تبلغ من العمر 11 عاما دراستها الجامعية بحلول نهاية هذه العملية) وسوف تشكل الأولويات الواضحة ضرورة أساسية لمنع هذه العملية من الاستمرار لفترة أطول.
لابد أن يكون الهدف بطبيعة الحال إيجاد التوازن بين ضمان قدرة الصادرات البريطانية من السلع والخدمات على الوصول إلى بقية أوروبا (وبخاصة الخدمات المالية) والحد من انتقال مواطني الاتحاد الأوروبي إلى بريطانيا. وكلما كان المفاوضون أكثر اطمئنانا إزاء مجال ما، كلما كان لزاما عليهم أن يتنازلوا في مجالات أخرى.
ويتعين على ماي أن تحشد كل معرفتها ومهارتها ورأسمالها السياسي الكبير للتفاوض على صفقة معقولة. ولكن حتى إذا نجحت في ذلك، فربما تجد أن بعض الناس غير راضين ــ وهي نتيجة لا مفر منها ــ بل وقد تجد أن الجميع غير راضين. وهذا من شأنه أن يزيد من قوة التحدي الرئيسي الآخر الذي يواجه حكومة ماي: تضييق الفجوة المتزايدة الاتساع التي كشفت عنها حملة الخروج البريطاني في المجتمع البريطاني.
كان التصويت لصالح الخروج البريطاني مدفوعا بالعمال العاديين في شمال إنجلترا ووسطها، الذين شعروا لفترة طويلة بالغربة عن قادتهم السياسيين، والذين خذلتهم العولمة وهُمِّشوا بفِعل وكيلها الاتحاد الأوروبي. وربما استفادت إنجلترا الحضرية ــ وخاصة لندن ــ ولكنهم لم يستفيدوا.
مع افتقارهم إلى الثقة في حزب العمال الذي يذوب تحت زعيمه اليساري جيريمي كوربين، وقع العديد من أعضاء هذه المجموعة فريسة للوعود الشعبوية التي بذلها أنصار الخروج البريطاني. فقد أعلنوا: "سوف نعكس العولمة. سوف نرد المهاجرين الذين يقمعون أجوركم على أعقابهم، ونعيد توجيه الملايين من الجنيهات من الاتحاد الأوروبي إلى الخدمات العامة". وتعهدوا بأن الخروج البريطاني سوف يعيد بريطانيا إلى ماض أكثر أمانا وازدهارا.
وكانت الوعود كاذبة. فالتراجع عن العولمة أمر مستحيل، ومن غير الممكن قطع الهجرة من الاتحاد الأوروبي. وأي محاولة للقيام بهذا من شأنها أن تدمر شركات المملكة المتحدة. وحتى لو أدى تعثر الاقتصاد إلى انخفاض الهجرة، فسوف يُحبَط العمال الذين صوتوا لصالح الخروج البريطاني في الأرجح عندما يكتشفون أن الوظائف المنخفضة الأجر لا تزال منخفضة الأجر، وأن خدماتهم العامة لا تزال خاضعة للضغوط. وهذا من غير المرجح أن يُفضي إلى تعزيز التماسك الاجتماعي.
لقد أطلق التصويت لصالح الخروج البريطاني عاصفة من المشاعر الشعبوية التي سيكون من الصعب السيطرة عليها. وتماما كما لن يتمكن دونالد ترامب من تحسين أحوال ناخبيه من الطبقة العاملة في الولايات المتحدة، فإن الخروج البريطاني ــ أيا كانت هيئته ــ سوف يفشل تماما في تحقيق أي قدر من النفع لأولئك الذين قرروا اختياره. وهذا هو التحدي الذي قد لا تتمكن ماي من التغلب عليه، برغم كل ما تتمتع به من أصول.
آخر حاكم بريطاني لهونج كونج